قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. أمل منصور تكتب: العنف الزوجي الصامت.. شراكة فاشلة أم خطاب مضلِّل؟

د. أمل منصور
د. أمل منصور

ليس من الطبيعي أن يتحول البيت، الذي يفترض أن يكون مساحة للأمان والاحتواء، إلى ساحة توتر دائم، ولا أن تصبح العلاقة الزوجية عبئًا نفسيًا يثقل الروح بدل أن يسندها. ومع ذلك، يعيش كثير من الأزواج داخل بيوت تبدو مستقرة من الخارج، لكنها في حقيقتها ممتلئة بعنف لا يترك كدمات واضحة، لكنه يترك آثارًا أعمق في النفس. هذا العنف لا يبدأ غالبًا بصوت مرتفع أو يد مرفوعة، بل يبدأ بخلاف بسيط، بنبرة حادة، بجملة جارحة، ثم يتراكم مع الوقت حتى يصبح أسلوب حياة.

المؤلم أن كثيرًا من هذه الحالات لا تُرى، ولا يُعترف بها بوصفها عنفًا. يتم تبريرها باعتبارها “مشكلات عادية بين الأزواج”، أو “اختلافات طبيعية”، أو حتى “حقًا مكتسبًا لأحد الطرفين”. وهنا يبدأ العنف الصامت، ذلك النوع الذي لا يصرخ لكنه ينهك، لا يترك دمًا لكنه يسلب الطمأنينة، ويحوّل الزواج من علاقة شراكة إلى علاقة سيطرة أو استنزاف.

في جذور هذا العنف تقف مسألة الاختيار من البداية. فاختيار شريك الحياة ليس قرارًا عاطفيًا عابرًا، ولا استجابة لضغط اجتماعي يخيف من الوحدة أو من تأخر الزواج. الاختيار الحقيقي يقوم على التوافق الفكري والنفسي، وعلى القدرة على الحوار واحترام الاختلاف، لا على الانبهار المؤقت أو الوعود الكبيرة. كثير من الزيجات تبدأ بدافع الخوف من كلام الناس، أو بدافع الحاجة إلى إثبات النجاح الاجتماعي، ثم يُكتشف لاحقًا أن الشريكين لا يملكان لغة مشتركة ولا أدوات تفاهم.

حين يغيب التوافق، يصبح الخلاف أرضًا خصبة للعنف. الخلاف في ذاته ليس مشكلة، بل هو جزء طبيعي من أي علاقة إنسانية، لكن المشكلة تبدأ عندما لا نعرف كيف نختلف. حين يتحول الخلاف إلى إهانة، أو صمت عقابي، أو تقليل من القيمة، أو تهديد مبطن، نكون أمام عنف قد لا يُعرّف بهذه الصفة، لكنه يؤدي إلى النتيجة نفسها: تآكل العلاقة، وانكسار أحد الطرفين، أو كليهما.

العنف بين الأزواج لا يقتصر على الضرب أو الإيذاء الجسدي، فهناك أشكال كثيرة لا ينتبه لها كثيرون في بدايتها. هناك العنف النفسي الذي يظهر في التقليل المستمر، والسخرية، والتجاهل المتعمد، وحرمان الطرف الآخر من التعبير عن مشاعره. وهناك العنف الاقتصادي حين يُستخدم المال أداة للسيطرة أو العقاب. وهناك العنف العاطفي حين يُربط الحب بالطاعة، أو يُستخدم الانسحاب كوسيلة للضغط. هذه الأشكال غالبًا ما تُكتشف بعد فوات الأوان، بعد أن يصبح الطرف المتضرر فاقدًا للثقة في نفسه، مترددًا في قراراته، خائفًا من المواجهة.

الاختيار غير المناسب لا يخلق العنف وحده، لكنه يرفع احتمالية حدوثه. حين يرتبط شخصان دون وعي كافٍ بشخصياتهما، أو بتاريخهما النفسي، أو بقدراتهما على التواصل، يصبح أي خلاف اختبارًا قاسيًا. ومع الوقت، تتراكم الخيبات، ويتحول الزواج إلى شراكة شكلية بلا روح، أو إلى ساحة صراع مكتوم. في هذه اللحظة، لا يعود السؤال: من المخطئ؟ بل: كيف وصلنا إلى هنا؟

في كثير من الأحيان، يدخل الأهل إلى المشهد بنيّة الإصلاح. وتدخل الأهل قد يكون عامل إنقاذ حقيقي حين يكون واعيًا، متزنًا، يسعى إلى التهدئة لا إلى الانتصار لطرف على حساب الآخر. وجود شخص حكيم يسمع للطرفين، ويعيد ترتيب الأولويات، ويذكّر بأن الهدف هو حماية الأسرة لا كسب المعركة، قد يمنع تصاعد الخلاف ويحاصر العنف قبل أن يستفحل.

لكن المشكلة تظهر حين يتحول تدخل الأهل إلى طرف في النزاع. حين ينحاز الأهل دون استماع، أو يُغذّون مشاعر الغضب، أو يعيدون إنتاج أفكار السيطرة والطاعة العمياء، يصبح تدخلهم وقودًا إضافيًا للعنف. في بعض البيوت، لا يُسمح للزوجين بأن يتحاورا وحدهما، لأن كل خلاف يُنقل فورًا إلى دوائر أوسع، فيكبر الخلاف بدل أن يُحل، وتتآكل الخصوصية، ويشعر أحد الطرفين بأنه محاصر، لا مسموع.

وسط هذا كله، يبرز دور الحوار بوصفه خط الدفاع الأول ضد العنف. الحوار الحقيقي لا يعني تبادل الاتهامات، ولا استعراض القوة، بل القدرة على الإصغاء، والاعتراف بالخطأ، واحترام المشاعر حتى في لحظات الغضب. غياب الحوار يفتح الباب أمام سوء الفهم، وسوء الفهم إذا طال أمده يتحول إلى عداء صامت، ثم إلى عنف معلن أو خفي.

ولا يمكن تجاهل الدور الخطير لبعض الخطابات الدينية غير المنضبطة التي تُستخدم لتبرير العنف داخل الزواج. فالشخص غير السوي لا يحتاج إلى أكثر من غطاء ديني ليعلّق عليه ممارساته، وبعض من يتصدرون المشهد بخطاب ديني مشوّه يقدّمون هذا الغطاء بسهولة. يتم تصوير القهر على أنه رجولة، والسيطرة على أنها قوامة، والطاعة القسرية على أنها واجب ديني، فيخلط السذج أو قليلو الخبرة بين الدين والسلطة، وبين الإيمان والعنف.

الأخطر من ذلك هو الترويج لأفكار تشرعن الإكراه حتى في أدق تفاصيل العلاقة الزوجية، وتختزل الشراكة الإنسانية في حق مفروض بالقوة. ويزداد الخطر حين يخرج بعض من يحسبون أنفسهم على أنهم دعاة ليحرّضوا الأزواج صراحة على أن حصولهم على العلاقة الحميمية مع الزوجة، إن لم يكن برضاها، فهو حق يمكن أخذه بالقوة. هذا النوع من الخطاب يمنح بعض السذج، وقليلي الخبرة، ومن يميلون بطبيعتهم إلى العنف، مخرجًا نفسيًا وغطاءً أخلاقيًا زائفًا، فيشعرون بأن ممارساتهم مبررة دينيًا. وبدل أن يكون الدين سياجًا يحمي الإنسان من القهر، يتحول في أذهانهم إلى أداة تبرر الاعتداء، وهو ما يساهم في زيادة حجم العنف، وربما تصاعده إلى جرائم داخل بعض الأسر. هذا النوع من الخطاب لا يحمي الأسرة، بل يدمّرها من الداخل، ويحوّل الدين من قيمة أخلاقية سامية إلى أداة ترهيب. المجتمع في حاجة حقيقية إلى تنقية هذا الخطاب، وإلى أصوات دينية واعية تعيد المعنى الحقيقي للعلاقة الزوجية بوصفها مودة ورحمة، لا ساحة فرض وإخضاع.

المجتمع والإعلام يتحملان مسؤولية كبرى في هذه المعادلة. فالصمت عن العنف، أو تبريره، أو تقديمه في صورة طبيعية، يساهم في استمراره. الإعلام الواعي قادر على نشر ثقافة الزواج الصحي، وعلى تسليط الضوء على أشكال العنف غير المرئية، وعلى تقديم نماذج للحوار والتفاهم بدل تكريس الصراخ والتشويه. كما أن حملات التوعية، والبرامج الجادة، والمحتوى المسؤول، يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في تغيير المفاهيم المغلوطة.

أما معايير الاختيار للزواج، فلا بد أن تُعاد صياغتها بعيدًا عن الشعارات الجوفاء. الاحترام، والاتزان النفسي، والقدرة على الحوار، وتحمل المسؤولية، والتشابه في القيم الأساسية، كلها معايير لا تقل أهمية عن العاطفة. الحب وحده لا يحمي من العنف إذا غاب الوعي، ولا يصمد أمام الخلاف إذا لم تدعمه أخلاق الحوار.

العنف الزوجي الصامت ليس قدرًا، ولا نتيجة حتمية للزواج. هو في كثير من الأحيان حصيلة اختيارات غير واعية، وتدخلات غير رشيدة، وخطابات تبرر القهر بدل أن تحاربه. ومواجهته تبدأ بالاعتراف بوجوده، وبإعادة النظر في طريقة اختيار الشريك، وببناء ثقافة تحترم الإنسان داخل العلاقة، رجلًا كان أو امرأة.

فالبيت لا يفقد معناه فجأة، بل يفقده حين نعتاد الألم، ونبرر الإهانة، ونصمت عن العنف. واستعادة المعنى تبدأ من شجاعة السؤال، وصدق المواجهة، والوعي بأن الزواج شراكة إنسانية قبل أن يكون عقدًا اجتماعيًا.