قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

ياسمين عبده تكتب: العائدون من جهنم

ياسمين عبده
ياسمين عبده

هناك لحظة لا ينجو فيها الإنسان بجسده كما يظن، بل يتركه خلفه للحظات، كأن الروح تنفصل عن ثقل اللحم والعظام، وتُعلَّق في فراغٍ لا اسم له. لا هو موتٌ كامل، ولا حياةٌ مكتملة. لحظة يسقط فيها الإنسان من الحياة ثم يُعاد إليها، لكن شيئًا ما فيه لا يعود أبدًا كما كان. شيء يظل عالقًا هناك، في تلك الهوّة، يهمس له كل ليلة: أنت أكثر هشاشة مما تصدّق.

الذين عادوا من حافة الموت — العائدون من جهنم — لا يجمعهم مكان ولا دين ولا عمر، لكن يجمعهم اعتراف واحد: نحن لا نعيش كما نتخيّل أننا نعيش. نؤجل الاعتراف بالحقيقة الكبرى، أن النهاية أقرب إلينا من نبضة واحدة، وأن كل ما نملكه، وكل ما نخاف عليه، وكل ما نؤجّله… يمكن أن ينهار في ثانية.

بعضهم يصف لحظة الانفصال عن الجسد، كأن الروح تطفو فوق سريرٍ أبيض، ترى الأطباء يتحركون بسرعة، تسمع أصواتًا مكتومة، وتفهم — دون خوف — أن شيئًا خطيرًا يحدث. آخرون يرون شريط حياتهم يمرّ فجأة: ضحكة منسية، وجه أم، خطأ ظنّوا أن الزمن محاه، ولم يمحه. وهناك من يتحدث عن نفقٍ طويل، وضوءٍ لا يشبه ضوء الدنيا، وضوءٍ لا يحرق ولا يؤلم، لكنه يبتلع كل شيء.

لكن هناك نوع آخر من العائدين…
الذين دخلوا الموت عبر الماء.

الناجي من الغرق لا يرى حياته تمرّ فقط، بل يشعر بها تنسحب منه. عضلات تفقد طاعتها  الرئتان تحترقان يختنق بلا نار، الجسد يقاوم بلا جدوى، والذعر لا يكون صراخًا، بل صمتًا كثيفًا. في تلك الثواني، لا يفكّر الإنسان في بطولته، ولا في خططه، ولا في قوته. يفكّر فقط: هل هذه النهاية؟ وحين يُسحب من الماء، ويعود الهواء فجأة إلى صدره، لا يعود كما كان. يعود وهو يعرف أن الموت لا يأتي دائمًا بصوتٍ عالٍ… أحيانًا يأتي بهدوءٍ قاتل.

وهناك من عادوا من جحيم آخر…
جحيم الجسد نفسه.
متعاطو المخدرات الذين لامسوا الموت في جرعة واحدة، يصفون لحظة انفجار القلب، وتسارع النبض إلى حد الهلع، وتشوش الرؤية، وهلوسات عنيفة يصنعها دماغ ينهار. لحظة يفقد فيها الجسد السيطرة، ويشعر الإنسان أن روحه تُسحب بالقوة. بعضهم يرى وجوهًا، بعضهم يسمع أصواتًا، بعضهم يعتقد أنه يموت فعلًا. وحين يُعاد نبض القلب، لا يعودون كما دخلوا. يعودون وهم يعرفون أن الجسد خائن، وأن ثانية واحدة كانت تفصلهم عن اللاعودة.

الطب يفسّر كل هذا بهدوء صارم: نقص الأكسجين، اضطراب كيمياء الدماغ، فوضى كهربائية في لحظة الاحتضار. العلم يذكّرنا — دون عاطفة — أن الوعي يمكن أن ينطفئ خلال ثوانٍ قليلة من توقّف القلب. ثوانٍ فقط تنقل الإنسان من حياةٍ مليئة بالضجيج إلى صمتٍ كامل.

ومع ذلك… نعيش كأن الموت بعيد.
كأن بيننا وبينه جدارًا من الشاشات، ومن الخطط، ومن التأجيل، ومن التفاصيل الصغيرة التي نتعلّق بها كأنها ضمانات للبقاء. نشتري وهم الأمان كل يوم: أبواب مغلقة، أجهزة حديثة، طرق آمنة، جداول مزدحمة… وكأن كل ذلك قادر على إيقاف موعدٍ قد يكون على بُعد ثانية واحدة.

لكن ماذا يبقى بعد العودة؟

لا يعود العائدون كما كانوا. يتغيّر شيء جوهري في علاقتهم بالوقت، وبالناس، وبأنفسهم. يرون هشاشتهم عارية، بلا أقنعة. يفهمون أن العمر ليس خطًا طويلًا نتحكم فيه، بل حافة نسير عليها دون أن ننظر إلى الأسفل. يعرفون أن الحياة لا تُعاش بالتأجيل، وأن القلوب قد تتوقف قبل أن نعتذر، أو نصلح، أو نحب كما تمنّينا.

كثيرون منهم يقولون إن خوفهم من الموت قلّ… لكن خوفهم من الحياة ازداد.
العائدون من جهنم ليسوا قصصًا مثيرة تُروى ثم تُنسى. إنهم مرايا نحاول أن نتهرّب من النظر فيها، لأن كل كسرة تعكس وجوهنا نحن، لا وجوههم فقط. تقول لنا هذه المرايا، بوضوحٍ موجع: لا أحد مخلّد. لا وقت يكفي لترميم كل ما انكسر. ولا حياة أخرى نجرّب فيها من جديد ما أضعناه في الأولى.

قد تكون لحظة السقوط الكبرى في غرفةٍ هادئة، أو على طريقٍ مزدحم، أو تحت الماء، أو داخل جسدٍ خان صاحبه فجأة. وقد لا يمنحنا القدر فرصة العودة لنفهم. 
فهل سنتغيّر حقًا… قبل أن يفاجئنا الموت، ولا يترك لنا فرصة اخري للعودة ؟