حين يتكلم النص بصوت السياسة لا يعود النص نصًّا خالصًا ولا تبقى السياسة سياسةً عارية من القداسة، بل ينشأ كيان ثالث أكثر خطورة وهو سياسة متدثرة بالمقدّس، ونصٌّ أُفرغ من أفقه الروحي والأخلاقي ليغدو أداة ضبط وهيمنة. هنا تحديدًا تبدأ الإشكالية الكبرى التي عرفتها المجتمعات الدينية قديمًا وحديثًا، وعلى رأسها التجربة الإسرائيلية القديمة كما يعكسها نص العهد القديم وتاريخه التفسيري.
لم يكن النص الديني – في نشأته الأولى – مشروع سلطة، بل كان خطابًا قيميًا موجّهًا إلى الجماعة يضبط علاقتها بالإله وبالإنسان وبالأرض. غير أنّ التحولات السياسية وخصوصًا مع نشوء الملكية في إسرائيل القديمة أعادت إنتاج النص داخل بنية جديدة فصار يُستدعى لتبرير القرار السياسي وتقديس الحرب ومنح الشرعية للحاكم، بل وإقصاء الخصوم بوصفهم “أعداء الله”.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل الدور المحوري للتفسير (Interpretation) بوصفه حلقة الوصل بين النص والواقع. فالنص في ذاته صامت لا يتكلم إلا حين يُقرأ، وحين يُقرأ داخل سياق سياسي مأزوم فإنه كثيرًا ما ينطق بلغة ذلك السياق. وهكذا تحوّلت نصوص العهد القديم – خاصة النصوص التاريخية والحربية – من سرد لخبرة جماعية مع الإله إلى مخزون رمزي جاهز للتوظيف السياسي، سواء في الماضي أو في الخطاب الصهيوني الحديث.
لقد شهد التاريخ الإسرائيلي القديم صراعًا واضحًا بين اتجاهين
اتجاه سلطوي يوظف النص لتكريس الملك والدولة، واتجاه نبوي نقدي واجه هذا التوظيف بشدة. فالأنبياء – وعلى رأسهم عاموس ، إشعياء ، وإرميا – لم يقفوا ضد السياسة بوصفها تنظيمًا للمجتمع، بل ضد تحويل النص إلى أداة تبرير للظلم. ولهذا جاء خطابهم صادمًا و عنيفًا أحيانًا لأنه سحب القداسة من السلطة وأعادها إلى العدالة.
غير أنّ الخطورة الحقيقية لا تكمن في التاريخ القديم فحسب، بل في استمرارية النموذج. فما جرى في إسرائيل القديمة يتكرر اليوم في صور متعددة نصوص تُجتزأ، آيات تُنتزع من سياقها، وتقاليد دينية يُعاد تأويلها لتخدم مشاريع قومية أو استعمارية فيتحول الإله من مرجعية أخلاقية عليا إلى شاهد زور على العنف.
إنّ أخطر ما في تسييس النص ليس فقط تشويه الدين، بل تحصين السياسة ضد النقد. فحين يتكلم النص بصوت السياسة يصبح الإعتراض السياسي اعتراضًا على المقدّس ذاته وتُغلق المسافة الضرورية بين الإيمان والسلطة.
وهنا تفقد المجتمعات قدرتها على المراجعة والمساءلة لأنّ السلطة لم تعد تُحاسَب بوصفها سلطة، بل تُطاع بوصفها إرادة إلهية.
من هنا، فإنّ استعادة النص من قبضة السياسة ليست فعلًا عدائيًا ضد الدين، بل هي فعل إنقاذ له.
فالنص لا يُهان حين يُفصل عن التوظيف السياسي، بل يُستعاد إلى مجاله الطبيعي، مجال القيم والضمير والسؤال الأخلاقي المفتوح. وربما كان هذا هو الدرس الأعمق الذي تركه لنا الأنبياء أن النص لا ينبغي أن يبرر الواقع، بل أن يُدين انحرافه.
وحين نتعلم أن نُصغي إلى النص خارج ضجيج السياسة سنكتشف أنه لا يتكلم بصوت السلطة، بل بصوت الإنسان المقهور والعدل المؤجل، والحقيقة التي ترفض أن تُختزل في خطاب المنتصر.