الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فدوى عامر تكتب.. أرض فضاء للبيع

صدى البلد

يتذكر جيدًا ذلك البناء الضخم كيف كان منذ أكثر منذ سبعة أشهر. كان أرضًا فضاء وكان هو ذاك الطفل الصغير ذي السروال الرمادي والقميص غير المهندم وحقيبة المدرسة السوداء الكبيرة التي كانت تئن حاملة كتبه فيحملها على ظهره الذي ينتقل إليه الأنين بالتبعية. 

كان يعرج على هذه الأرض في طريق عودته من مدرسته سيرًا على الأقدام كلما سمح الوقت بعد انتهاء دوامِه الدراسي. كانت أمه تسمح له على مضضٍ بلعب الكرة هناك مع أطفالٍ آخرين يقطنون نفس المنطقة حيث أنها كانت تخشى عليه جدًا من هذا المكان ما أن يحل الغروب. لم تكن تسمح له بالذهاب للعب هناك إلا والشمس ما زالت في كبد السماء، على أن يعود قبل أن تنادي أشعة الشمس الأرجوانية قمر الليل الآتي من وراء السحب في حياء.

في المجمل كان يذهب إلى هناك مرتين أو ثلاثة أسبوعيًا. كان يأخذ كرة صغيرة صنعتها له أمه من بقايا الأقمشة والجوارب القديمة ليلهو بها مع أخيه الذي يصغره أثناء عودتهما إلى المنزل. كان يلتزم شديد الالتزام بتعليمات الأم.. فكان يخلع حذائه ويساعد أخيه في خلع حذائه هو الآخر ثم يضع الاثنين بعناية بجوار حجرٍ كبير يجلس عليه خفير الأرض، وهو رجل طيب للغاية يسمح لهما باللعب كيف ومتى يشاءان.. بل إنه كان ينبههما إلى الوقت إذا ما غفلا عنه في غمرة لعبهما حتى يعودا أدراجهما في الموعد المحدد.

كان هو مجتهدا وملتزما بدراسته لسببين: أولهما أنه كان يرى الفرحة الصادقة في عيني أمه عندما يسلمها شهادته الشهرية: كانت تقبلها فرحة فخورة بعمل ولدها، ثم يلهج لسانها بالدعوات له بدوام التفوق، خاصة وأن أخاه لم يكن متفوقًا مثله، فكان نجاحه عوضًا لها عن درجات أخيه؛ وثانيهما أنه كان يريد أن يصبح مهندسًا مثل جاره الذي كان يراه يوميًا متجهًا إلى كليته حاملًا المسطرة حرف T الشهيرة.

يتذكر جيدًا ذلك اليوم عندما انتوى الذهاب إلى الأرض بصحبة أخيه كما جرت العادة. كانت قد مرت أربعة أيام على زيارتهما الأخيرة للعب بالكرة. استوقفه مشهد الجرافات والأوناش التي غطت مساحة الأرض الشاسعة، وعربات الرمل والطوب والزلط. حاول الدخول ربما يفهم ما يحدث أو يجد رقعة صغيرة يستطيع اللعب فيها كما هي عادته. رأى الخفير ينظر له من بعيد نظرة عطف يشوبها الحزن ويشير له بالعودة أدراجه. فهم من حديث العمال أن الأرض لن تكون فضاءًا بعد اليوم، والأسوأ أنها لن تُعد بعد الآن ملعبه الخاص.. لن تكون جنته وسلواه وناديه.. لن تكون ملك ساقيه يرمح فيها كيفما يشاء. سوف تتحول إلى بنايةٍ صماء.. إلى كتلةٍ مصمتةٍ بلا روح.. سيتحول ترابها الذي طالما طال ملابسه وتسبب في غضب أمه العارم وعلو صوتها وهي تغسلها إلى بلاطاتٍ خزفية بغيضة. ستتحول نتائج المباريات التي خطها بيده على سورها بإصبع الطباشير الأبيض إلى جدارية ضخمة من الفسيفساء تسر أنظار سكان المبنى الكبير وتثير حسد ضيوفهم.

عاد أدراجه ممسكا بيد أخيه.. دخل على أمه التي ميزت الحزن على قسماتِ وجهه الصغير. استغربت عودتهما مبكرًا وأدركت السبب بعد شرحٍ مقتضب من أخيه الذي حكى القصة في كلمتين وجرى ليجلس كالصنم أمام التلفاز. تعاطفت الأم مع حزنه.. ولكن فرحتها بتفرغه التام لدروسه كانت هي الغالبة.

مرت الأيام التالية بطيئة ومملة.. كان قد فقد كل رغبةٍ لديه في الاستذكار أو حتى مراجعة دروسه. لاحظت أمه شروده وأدركت بحسها وحدسها أن ما به لن يمر مرور الكرام. وفعلا جاء أول الشهر وأتى ليعطيها بيان درجاته. سقطت دمعة منها على الشهادة المرتعشة بين يديها.. ثم نظرت له في عتابٍ صامت بألف كلمة وقامت لتعد مائدة الغداء. تألم لألمها.. ولكن الأمر ليس بيده؛ فالحزن أكبر منه..

توالت الشهور والحال هي الحال.. والدرجات في تدهور.. والدموع في انهمار.. والحزن يسكن القلوب. يعلم الله أنه حاول جاهدًا الاستذكار مثلما كان يفعل في الماضي. كان يجلس إلى مائدة الطعام كما جرت العادة ليذاكر بعد الغذاء وحتى موعد العشاء.. ولكن هيهات. كان الشرود هو سيد الموقف.. والنظرات الزائغة هي البطل الحقيقي. التئمت قروح أقدامه من آثار اللعب، ونبتت عوضًا عنها جروح قلبه المغتم. مر العام الدراسي ونجح بملحقٍ في مادتين. كانت صدمة أمه كبيرة، خاصة أن نجاحه كان أقرب الى السقوط، ولكنها تمالكت نفسها وسلمت أمرها لله.

مرت شهور الصيف بطيئة وحارة ولزجة. لم يستمتع بهذه الأجازة الصيفية الكئيبة على أثر ملاحقه. كان يمر بشكل شبه يومي أمام أرضه الفضاء التي لم تعد فضاء.. التي لم تعد له. كان يرى يومًا بعد يوم علو البناية السريع الشامخ القاتل لحلمه البسيط.. والذي سلبه براءة طفولته. حتى جاء يوم آدائه للملحق الذي لم يسعد كثيرًا بآدائه فيه. وفي أثناء عودته إلى المنزل ساقته قدماه وهو شارد الذهن عبر درب لم يعتده. لم يعرف ما الذي جذبه ليسلكه.. ولكنه مالبث أن رأى على مرمى البصر أرضًا صغيرة مسورة تعلوها لافتةً جديدة بألوان طلاءٍ لامعة كتب عليها "أرض فضاء للبيع- للمعاينة يرجى الاتصال ب......."

أسرعت به خطواته حتى كادت قدماه أن تتداخلا.. وصل إلى البوابة ونظر غير مصدقًا: جنة صغيرة ذات أرض ترابية وحجارة مبعثرة. انحنى ليلتقط حجرًا على سبيل التعارف وقبل أن يرفع رأسه لمح طرف حذاء. رفع رأسه ببطء.. فوجد وجهًا مألوفًا: إنه يشبه خفير الأرض القديمة إلى حد ما.. بجلبابه الأبيض الفضفاض وعمته الصعيدية ولكنته التي تمتم بها مبتسمًا، كاشفا بذلك عن أسنانٍ غلبها الزمن. لم يفهم منه شيئًا ولكنه ابتسم هو أيضًا.. وشرع في خلع حذائه كدأبه..بناءً على تعليمات والدته.