هل الاهتمام على هذه الأرض محجوز على قيد أرواحنا بمجرد أن تصعد للسماء السبع؟!،.. ولماذا لا تأتي لهفة الشوق للأهل، الأصدقاء، أو حتى الزملاء إلا بعد ذهابهم لدنيا أخرى ربما يجدوا فيها الحب الذي بات عملة نادرة في زمننا وجائز ينعموا بلقاء أحبابهم الذين سبقوهم للجنة ،.. كلها غيبيات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى وعنده العفو لكن الأكيد أن أنا وأنت وكثير منا قصر في حق بعضهم بقصد أو بدون قصد..
ففي هذا الأسبوع شهدنا حكايتين كل منهما أوجع من الأخرى،.. أحدهما لطالبة بكلية الصيدلة تدعى شهد تدرس بجامعة قناة السويس وقد اختفت فجأة، فظل الجميع يبحث عنها وقام زملاؤها بنشر صورها على وسائل التواصل الاجتماعي على أحدهم يطمئن خاطرهم.. وبعد 3 أيام عثر عليها في مياه النيل بمنطقة الوراق جثة هامدة .. وقد كشفت التحريات أن انتحارها راجع لمعاناتها من مرض الوسواس القهري!.. والثانية للفنان الشاب هيثم أحمد زكي والذي تجرع مرار الوحدة واليتم بمنتهى الصمود والصمت فظن الجميع أنه نجح في مصادقة وحدته، فلم يلتفت إليه أحد حتى استيقظنا جميعًا على خبر رحيله المفاجئ وكأنه ناقوس إنذار بمراجعة أفعالنا وأقوالنا في حق من نعرف ومن لا نعرف قبل أن يباغتنا الموت عنوة الذي لا يفرق بين كبير أو صغير وبات كل منا يفكر إذ كان حقًا مستعد للقاء رب كريم..
ورغم اختلاف وتباين حكاية كل من شهد وهيثم إلا أن القاسم المشترك بينهما يكمن في ردود أفعال الناس من حولهم فالأولى كان خبر وفاتها صدمة لأبناء محافظتها"العريش" التي اتشحت بالسواد وقام أحد المعتمرين بعمل عمرة لها وآخرون وزعوا ألف شنطة غذائية رحمة على روحها.. والثاني لا يوجد بيت في مصر إلا وحزن عليه فضلًا عن منصات التواصل الاجتماعي التي انقسمت لحملات ومجموعات للتصدق على روح الفنان الشاب، فهذا يقوم بعمره عنه،وذاك يضع صورته على ثلاجة مياه لتكون سبيل باسمه، وهؤلاء يتبرعون للمستشفيات والأعمال الخيرية أملا أن تصل صدقتهم لروحه..
ولا أنكر أن كل هذه الصدقات أصدق دليل أن مجتمعنا لا يزال فيه الخير لكن يبقى السؤال الأهم،.. ألم يكن هيثم وشهد في حاجة لاهتمامنا أكثر وهما على قيد الحياة؟!..وترى كم من شخص يعيش معنا وداخله شروخ وتصدعات قد تنبئ بالخطر؟!..
أعتقد أننا بحاجة لإعادة النظر في رؤيتنا وتعاملنا مع المشاكل النفسية المختلفة، وإذا كان الدكتور أحمد عكاشة مستشار رئيس الجمهورية للصحة النفسية والتوافق المجتمعي أطلق مشكورًا حملة وطنية لمواجهة ما يعرف بوصمة المرض النفسي الذي يعاني 40% منه التهميش ما يدفعهم لتعاطي المخدرات هروبًا من وصمة مرضهم على حد تصريحاته، فأنني أرى ضرورة تكاتف كافة جهات الدولة في خطة قومية تهدف للتوعية المجتمعية بخطورة المرض النفسي وكيفية اكتشاف أصحابه والطرق المثلى للتعامل معهم .. فالألم النفسي اشد فتكًا من أي مرض عضوي.. فصاحب المرض العضوي يشكو بكل وضوح من موطن ألمه فيشخصه الأطباء بمنتهى السهولة وسواء وجدوا العلاج أم لا فالكل يقدر تعبه ويقف لدعمه ومساندته بينما ينخر الوجع النفسي في الروح والفؤاد دون أن يلتفت إليه أحد، ويوم تلو أخر يصاب المريض النفسي بهشاشة مشاعر تعرض قلبه للسقوط على أهون سبب! .. وقتها فقط ، نندم على تجاهلنا لأوجاعه لكن بعد فوات الأوان..
ليتنا نجعل من رحيل شهد وهيثم درسا نتعلم منه فن احتواء أحزان الأخر ، فكلمة حب واحدة تعبر بها عن مشاعرك لمن يحتاجك في حياته أفضل كثيرًا من مائة ألف منشور وهاتشتاج تذكر فيها محاسنه ومقدار فقدانه بعد مماته!..