الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

القبر المضيء على ابن الشريفة خضراء


لم أجده على غير ما وصفت، حينما أودعناه التراب قبل أيام، فى قبر أضيء بحضوره، بينما تراص السابقون على جانبيه يحتفلون بمجيئه.


كانت آخر كلماته التى لم ينطق بها لي "كلنا بلا هيئة ولا منظر داخل كفن يسترنا يا حسين.. وكل هيئاتنا لا تبدو سوى فى بزات الدنيا التى تظهر منها رؤوسنا وأيادينا".


ظل "صبحى"؛ ابن العم "حسين" الذى تذكر رواية أبى رحمه الله لى عن سيرته طيبة القلب وحسن الخلق فسميت باسمه تأثرا برحيله قبل مولدي بشهور، حلقة الود المستمرة بلا انقطاع بيني وعائلة أبي، حتى إذا ما لحق بشقيقيه مصطفى وعبد الله خلال أقل من عامين دون أن يكمل أحدهم الستين إلا نيفا، تباهت به أمه الشريفة "خضراء" فى علو صبرها مبشرة إياه "حصى الأرض يدعو لك يا ولدى".


هكذا ترجمت الأم الشريفة إحساسي بأن عبدا إذا ما أساء فى حياته احتاج الناس فى كثرة الدعاء والتصدق بحثا عن مغفرة، وإن أحسن لنفسه والعباد بقيت دعوات الصالحين زينة لسيرته حتى موعد القيامة، وتلك مزية للصالحين لا ندركها عدا ساعة تجاوز الصدمة، نصارح أنفسنا أمام قبورهم بأن رحمته تسبق حسابهم عن عملهم، وأنهم ملهمون بالإجابة على ملكين فى انتظارهم دون عناء.


لسنوات ظل قلب "صبحى" محتفظا بما لا يتحمله غيره فى بشر من سوءات، لم تفرج عنه "قسطرة" متكررة خلال العقد الأخير من عمره، فيما بقيت خصلات الشعر الأبيض فوق رأسه منذ ثلاثينات عمره تضاهى بياض قلبه وتناطح صفاء جبينه ونور وجهه.


ظاهرة لا تتكرر كثيرا فى عائلات استسلمت أجيالها الأولى للموت تاركة وراءها من يواجهون أصعب الاختبارات والاختيارات، عاش "صبحى" وإخوته أحدها حينما تركهم العم حسين للشريفة "خضراء" صغارا ورحل دون استئذان، لتربي أيتامها وتصنع منهم أبطالا، وها هو يكررها أولادها ويرحلون بينما خلفاؤهم فى مفترق طرق أو أولها.


لم أبك على فراق "صبحى" واكتفت عيناي بدموع وداع أمام مقبرة تكررت عليها أسماء المودعين داخلها، بل صمتى فى وداعه ظل كتمانا لحوار لم يسمعه غيرنا، حتى من تراصت رفاتهم فوق بعضها على جانبي القبر بأيدي "تربي" عفي القلب تقوى ساعداه على مخاطبة الموتى ليلا.


أحاوره فى ثيابه الأبدية المضيئة رغم تراب أخفق فى إخفائها، أذكره بهديته لى طفلا حينما أتي إلي بطاقم أصفر فسفوري رياضي ظل أقرانه يحسدونني على روعته، ويرد علي باستطلاع رأيي فيما يرتديه لحظة وداع تألمت لها قلوب الأحياء.


قيمة الإنسان تظل فى نقاء قلبه واتساقه مع ذاته وانشغاله بأمره عن الناس وتركيزه فى جانب التقوى فى نفوسهم وتجاهل فجورها، هذا النموذج من البشر وحده يمكنه إقناعك بأن موته مجرد رقود وأن نهايته مستقر جديد تتمنى أن تنتهى إليه لتجاوره، هكذا رأيت وعايشت ابن العم البار.


سأفتقد برحيله أول من يهاتفنى ليلة عيد بتهنئة أو يرد على استفساري عن غيابه بعبارة أداعبه مستنكرا إياها "شكرا على السؤال..!!"، كما أفتقد من يعد أياما يقطعها تواصل أحدنا، قبل أن تنقطع بأجيال تالية السبل نحو أرحامها. 


الشبع من وجوه وقلوب راقية عزة يتمسك بها الأذكياء، فكونوا على مقربة من أحبائكم قبل فقدانهم فهم أولى بكم ممن باعدت الشياطين بينكم وبينهم وضلوا سبيلا.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط