الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أهلا بك في عالم الساكسونيا


عن غير قصد؛ يكشف سوق المستعمل وصفحاته الترويجية على مواقع التواصل الاجتماعي؛ عن حالة متردية من الأوضاع والظروف الاجتماعية والعلاقات المجتمعية المدمرة، رغم أن ظهوره يقترن بحالة من التكامل والتوافق والتراضى بين من يتبادلون سلعا معمرة تتفاوت مستوياتها وفترات استهلاكها.


من قبل؛ كنا نسمع مناديا فى شوارعنا وأحيائنا السكنية؛ يعلو بصوته "ساكسونيا..."، كان يمر فى هندام لائق يخبئ بجيوبه السرية رزمة النقود الأكبر، ويظهر أمام الزبون قليلا من الورقات النقدية للتعامل بها على سلعة يتنازل عنها صاحبها بعد سنوات من استخدامها.


زاد الأمر؛ وتزايدت عشوائية أداء الباحثين عن المستعمل داخل بيوت الناس، فظهرت عينة من باعة الرولابيكيا تباشر سطوا على دور "أعيان الساكسونيا"، بعربات الكارو والميكروفون الكهربائي المحمول، ودون اعتراض مسؤول، غزوا الأحياء الراقية تباعا، بعدما كانوا ينتظرون خلاص أصحاب البيوت من مخلفات أجهزتهم بإلقائها إلى جوار مقالب وصناديق القمامة.


تدريجيا؛ غابت حالة التكافل بين نفر غير قليل من البشر، وبدلا من أن تتحرك مشاهد نقل الموبيليا والأجهزة المستعملة ليلا و سرا من بيوت المقتدرين "المجددين" إلى الجيران البسطاء، أصبحت تباع للغريب بثمن يقترب من الجديد أو حسب "شطارة" صاحبها فى مفاوضاته مع المشتري، ولم لا؛ وقد باتت عمليات تقسيط أثمان السلع سهلة وصرنا أمام أسر فقيرة تتزوج بناتها بغسالتين وثلاجة وديب فريزر وشاشة عرض بكل غرفة على حدة، بغرض رفع قيمة قائمة المنقولات، ولو دخل أبو العروسة السجن غارما بسبب أقساطها.


زبالو مصر؛ غابوا عن المشهد وانتهت مقالب الفرز التى اشتهرت مناطقهم كثيرا بها، بعد أن حلت شركة أجنبية مكانهم، بتعاقد حكومى، لأداء مهمة جمع القمامة من البيوت، وكانت أكياسها فرصة لهم يطبقون معها عملية "الفصل من المنبع" التى قلدتها الحكومة بعدهم دون نجاح حقيقي، ربما لثقة الجمهور بهم بعد اضطراره إلى سداد فاتورة الكهرباء مشمولة برسوم النظافة دون تحقيقها تماما، وخروجهم لإلقائها فى الشوارع عقب اختفاء الزبال الشعبي.


عناوين شتى لمنصات تداول السلع والأجهزة المنزلية والأثاث المستعمل، تسببت بحسب تجار ومصنعين فى حالة من الركود للمنتجات الجديدة، خاصة مع ارتفاع تكاليف المعيشة مقارنة بالدخول، لكن السلعة "اللقطة" تظل محصورة فى جهاز العرائس اللاتى تخارجن من علاقات زواج لم تدم أياما ولم تزد عن السنة.


قسوة شديدة على القلب؛ أن تجد زوجة لم تدم حياتها لأسابيع ولم يسعفها الوقت لتغيير حالتها الاجتماعية بخانة بطاقة رقمها القومى من "آنسة" إلى "متزوجة"، حتى تحصد لقب "مطلقة"، والأصعب أن يحضر أهل ضمير حقا لشراء ما تعرضه من أثاث للبيع بعد تحصلها عليه من زوج سيئ الحظ مثلها.


تداعيات ما بعد ظهور وباء كورونا؛ تبدو على صفحات تداول "المستعمل" من الأثاث المنزلي، حينما تضطر أسرة فقد عائلها القدرة على الكسب بترك وظيفته أو تسريحه أو غلق بوابة رزقه، إلى بيع "عفش البيت" لأجل ألا تمد يدها للغير أو تتسول قوت يومها، أو أن امرأة اضطرت لذلك بعد طلاقها من رجل فقد قوامته بسبب خسارة مصدر دخله، ولم تتوقف محاكم عن قبول دعاوى ملاحقته بالنفقات ولو مؤقتا حتى تتبدل الظروف وتتغير الأحوال.


لم يكن لى أن أسوق أمثلة مباشرة اصطدمت بها وأنا أراقب هذه الظاهرة؛ سوق المستعمل؛ التى تكشف النقاب عن حالة مجتمعية يسودها الشقاق والبؤس لدى طبقات شتى اجتمعت على منصات الساكسونيا الإلكترونية وصفحات الروبابيكيا، لكن أسرار البيوت تظل محصورة بين الصابرين على حياة لا تمنح البشر كل ما يحلمون به، ولو اكتفوا بالعافية.


ولو أن حالة تنافس هذه الظاهرة فى سوق تداول السلع، لكان "الركود" الذى أصاب كثيرا أسواق المتفائلين، بفعل جائحة اختبرت قدرة مجتمعات وبشر على المواجهة، وكشفت زيف علاقات داخلية ونفعيتها وصوريتها وارتباطها باستخفاف متزايد بنعمة الرضا.


ربما تؤكد الاثنتان معا على حقيقة واحدة تفرض نفسها على مستقبلنا، وهى أن عدم قبولنا بالعيش بالضرورات سيفقدنا القدرة على التعايش فيما بيننا، والتسامح أيضا.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط