الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. هادي التونسي يكتب: رجل الأقدار

صدى البلد

كنت أريد أن أقرأ له حوارًا مطبوعًا، لم تكن كلماته واضحة لناظري، وعندما حاولت أن أبحث عن رابطه، وجدت بديلا له حوارًا متلفزًا مدته تربو عن ساعة و نصف. و رغم أن يومي عادة هو سباق بين أولويات متراكمة، تبعدني عن الخروج عنها، وعن متابعة البرامج الطويلة، إلا أنني وجدت نفسي مأخوذا للاستغراق في برنامج عن قصة حياته.

فما الدافع! هل هو أنني أكتب منذ فترة عن القدوة، أم هو رغبة في استطلاع سبب تلك الكيمياء الشخصية، أم هو صفات ذلك الرجل الفريدة!
كنت تواصلت معه مرات قليلة بحكم مشاغله، اذكر منها في بدايات عملي عابرًا في مطار بنيويورك، ومرة أدركت حينها صلابته واتزانه في مكتب قيادي يعطيه كل وقته، و مرة في النمسا علي هامش زيارة عمل، فهذه المرات بالذات حفزتني لمعرفة المزيد، من هو ذلك الرجل اللافت الجاذبية و التواضع و البشر، المتوافق مع ذاته، و المتزن رغم حياة حافلة تطلبت الكثير و الكثير جدا!

دوما أعجبني ظهوره الإعلامي كمحلل سياسي، رأيته صديقًا للكاميرا، يتحدث بصراحة وعمق وبكلمات متفهمة لطبيعة الحياة والبشر والنزاعات السياسية، تحتوي جميع الأطراف، و يبقي مدافعا مقنعا مثابرًا عن الصالح الوطني. لكن هذه المرة كان برنامجا عن حياته.

الوالد صبور حكيم رقيق، والوالدة راقية رائدة مثقفة، تحسن التعامل مع الكل، لبقة متفهمة تحب الناس، تحمي و تدعم، و تمنح الثقة لابنها في قدراته وحدسه، فتبث فيه قيم الإيمان والإلهام و التفاؤل، تضيف لما مثله والداه من قدوة؛ تلك القدوة التي زادها تعلقه بجده رئيس الأركان الأسبق الذي تعلم منه تحدي الصعاب و دراسة مواقف الأعداء لتنبني مواقفه علي الخبرة و الحسم و الكفاح. نشأة وصفوها بالأرستقراطية، التي لا تعكس مجرد الأسلوب بل البناء القيمي و الثبات علي المبدأ و الاعتزاز بالنفس و الإيمان بان علو الشأن و المنصب هو المسار الطبيعي للمستقبل. و كيف لا، و هو أيضا تعلم في مدرسة قومية متميزة تعليما و وطنية.

النشأة توحي بأن التربية القويمة والمثل والأسرة الحانية المستقرة لها دور أهم من كم التحصيل الدراسي؛ فهو بصراحة و توافق نفسي متين يقول انه كان طالبا عاديا، لكنه كان يرتاد المكتبات و الملاعب، وكان يحكي بفخر عن فترة تجنيده الأولية بمعسكر، اعرف أنه تم إغلاق فيما بعد لاعتباره غير صالح للمعيشة  الآدمية، فتفهم انه ثقل فيه صفة المحارب الذي يقهر التحديات المعيشية والضغوط النفسية بثبات وإيجابية ومثابرة، ويبقي دوما ذلك المتزن المتكيف المعتد بنفسه ووضوح مواقفه.

تلك الإيجابية وذلك الخلق وهذه الصلابة النفسية ربما جلبت ما يناسبها طاقيا من مسار وظيفي دبلوماسي و برلماني و أكاديمي ؛ فعمل في بداية حياته الدبلوماسية مع سفير له صفات مماثلة وخبرة، علمته مهنيا مواجهة المواقف المعادية، ثم اختير للعمل في اهم سفاراتنا في العالم، يثقل فيها خبراته و معارفه، و يلم بالمهارات السياسية و الدبلوماسية في بلدان، يجمعها بمصر مصالح و تحديات حاكمة، بل و خلال بعض اشد التحولات السياسية الهامة إقليميا ودوليًا، ليصبح احد اهم مهندسي العلاقات المصرية الألمانية علي كافة المستويات بما فيها الشعبية، و يجلب لبلده احترام احد اكثر الشعوب انتاجا و انضباطا و صرامة . و يصل بعدها أن يكون وزيرًا لخارجية مصر، و مازال هو ذلك الرجل المحبوب المتفاني المتزن الوفي؛ ذلك الوفاء الذي تشربه أثناء طفولته، وذلك التفاني الذي انطبع علي عمله عرفانًا لما حظي به من أسرته و وطنه. فأصبح جبر الخواطر شاهدا ثابتا من خلال علاقاته و خدمته لذلك العرفان و الولاء يقدمه بحب و سلام و سعادة.

يقول إن تاريخ ميلاده تواكب مع حريق القاهرة و اليوم التالي لأحداث ٢٥ يناير، و يلمح لبركة ما، يدفعه القدر بها الي مسارات اختير لها، فنتذكر حياة ارتبطت بمواجهة التحديات، فاختار ان يستقيل في ٢٦ يناير ٢٠١١ عن منصب حكومي بعد المعاش،اعتدادًا بتاريخه و مواقفه و مبادئه، ثم بعد انصلاح الأحوال ان تكون مهامه مبعوثا خاصا لبلده رئيسا للجنة العلاقات الخارجية في البرلمان،يدافع بشراسة ناعمة عن بلده في عواصم الغرب التي رفضت ثورة ٣٠ يونيو، حتي تقبلت و تعاونت، فهو عمل احسن إعداده للقيام به تربويًا و وطنيًا و مهنيًا و شخصيًا ، ثم عاد ليحاضر في جامعات مصر، يضيف بخبرته المهنية الي الأكاديميين، و بقدوته الشخصية الي شباب يحدوه الأمل و يتلمس الطريق.

معالي الوزير و السفير و الإنسان محمد العرابي هو قدوة قبل كل شيء؛ قدوة تبين كيف تتفوق بعيدا عن النفاق و التجبر، كيف تلتزم بالمبادئ و الكرامة في اصعب الاختبارات، كيف تعيش في سلام و توازن في خضم الصراعات و الضغوط ، كيف تكون نفسك و يجمع الناس علي محبتك، كيف تسعد و أنت تمنح، كيف تتقبل الأضداد و تحظي بالاحترام، كيف تتواضع مهما علا شأنك و كرموك، كيف تجعل مسيرة الحياة حبا و عطاء و رضاء. المفتاح يرجعه الي التربية و التعليم، و أضيف النشأة. أما التميز في مواجهة التحديات فهو ما جعله رجل الأقدار دبلوماسيا و سياسيا و برلمانيا و شعبيا .