قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. أمل منصور تكتب: كانت السند فصارت المستبدَلة.. عن الخذلان الذي يأتي من أقرب الدوائر

د. أمل منصور
د. أمل منصور

ليست كل النساء قويات لأنهن لا يتألمن، بعضهن قويات لأنهن تعلمن كيف يخفين الألم خلف واجبات لا تنتظر، ومسؤوليات لا تؤجل، وبيوت إن انهارت سقط فوق رؤوس أطفال لا ذنب لهم. هي المرأة التي تبدأ يومها قبل الجميع، وتنهيه بعد الجميع، تحمل تفاصيل البيت كما لو كانت جزءًا من جسدها، وتتعامل مع مشاق الحياة باعتبارها قدَرًا لا خيار فيه، لا بطولة تنتظر ثمنها، ولا شكرًا يُقال في آخر الليل.

هي التي تعرف مزاج زوجها من صوت خطواته، وتعرف ضيق الرزق قبل أن يُقال، وتتحمل قسوته حين يضيق صدره، وتلتمس له الأعذار حين يقصر، وتؤجل أحلامها الصغيرة لأن استقرار البيت يبدو أهم، وتُربّي نفسها على الصبر لا لأن الصبر سهل، بل لأن البديل مخيف. تبني بيتها كما تُبنى الجدران الحاملة: صامتة، ثابتة، لا يراها أحد لكنها إن انكسرت انهار كل شيء.

تمر السنوات، وتعتقد – بسذاجة النية لا بضعف العقل – أن ما تزرعه سيعود أمانًا، وأن التحمل سيُثمر تقديرًا، وأن الوفاء لا يمكن أن يُقابل إلا بوفاء. لا تدري أن بعض القلوب لا ترى ما أمامها لأنها اعتادت وجوده، وأن الاعتياد أخطر أعداء الحب، لأنه يجعل العطاء مشهدًا عاديًا، لا يُلتفت إليه إلا عند فقده.

ثم تأتي الخيانة لا كصفعة واحدة، بل كزحف بطيء. إعجاب يُستهان به، كلمات تُبرر على أنها “عادية”، حدود تُمسح تحت مسمى الثقة، وامرأة أخرى ليست غريبة، بل أقرب مما ينبغي. صديقة. امرأة دخلت البيت كمساحة أمان، جلست على الأريكة، شربت القهوة، سمعت الشكوى، عرفت التفاصيل، لمحت مواطن الضعف، وربما رأت في هذا الرجل ما لم تعد زوجته قادرة على إظهاره من شدة الإرهاق.

وهنا تتضاعف الخسارة. فالخذلان لا يأتي فقط من الزوج الذي انصرف قلبه، بل من الصديقة التي خانت معنى الصداقة قبل أن تخون امرأة. خيانة مركبة، قاسية، لأنها لا تسقط الثقة في شخص واحد، بل في دائرة كاملة كانت تُحسب آمنة. أن تُطعَن من الخلف مؤلم، لكن أن تأتي الطعنة من يد تعرف أين تؤلم، فهو وجع مختلف، أعمق، وأطول أثرًا.

يحاول البعض تبرير ما حدث بعبارات ملساء: القلوب لا تُجبر، النصيب، المشاعر أقوى من الجميع. تُقال هذه الجمل بسهولة شديدة على حساب امرأة دفعت عمرها، وصبرها، وهدوءها، وصحتها النفسية ثمنًا لبيت ظنّت أنه محصّن بالتضحيات. لا أحد يسألها كيف نامت ليلتها الأولى بعد الصدمة، ولا كيف واجهت المرآة، ولا كيف أعادت تفسير سنوات كاملة من حياتها وهي تحاول فهم متى تحوّلت من سند إلى عبء، ومن زوجة إلى خيار ثانٍ.

الأخطر أن الخيانة هنا لا تُواجه باعتراف صريح، بل تُغلّف أحيانًا بثوب “الحلال”. زواج يُعلن بعد علاقة بدأت في الظل، وكأن العقد الجديد يمحو كل ما سبقه من تجاوزات. وكأن الألم يُلغى بورقة، والخذلان يُغفر بتوقيع. يُطلب من المرأة أن تكون متفهمة، ناضجة، قوية، وأن تتقبل الأمر كواقع، بينما لم يُطلب من أحد أن يكون أمينًا من البداية.

تمر الزوجة بمرحلة قاسية من الهجر النفسي قبل الانفصال الفعلي. تشعر بأن الرجل الذي شاركته تفاصيل حياته أصبح غريبًا، حاضرًا جسدًا، غائبًا روحًا. تراقب تغيّره، صمته المختلف، شروده، اهتمامه المفاجئ بنفسه، وبروده غير المبرر. تشك، ثم تُقنع نفسها أن الشك خيانة، فتعود للصمت، حتى تنفجر الحقيقة دفعة واحدة.

وحين تقع الصدمة، لا تخسر زوجًا فقط، بل تخسر صورة نفسها كما كانت. تسأل: هل لم أكن كافية؟ هل أخطأت حين تحمّلت أكثر مما ينبغي؟ هل كان يجب أن أكون أقل طيبة، أقل صبرًا، أقل وفاءً؟ تبدأ في محاكمة ذاتها بدل أن تُدان الخيانة، لأن المجتمع درّب النساء على جلد أنفسهن أولًا، وعلى البحث عن الخطأ في المرآة لا في الفعل.

الأطفال، في كل هذا، يقفون في المنتصف. يرون البيت يتغير، الأم تنكسر وتحاول التماسك، الأب يعيد تشكيل حياته وكأن شيئًا لم يكن. تتبدل المفاهيم في عقولهم: الأمان، الأسرة، الثقة. يدفعون ثمن اختيارات لم يكونوا طرفًا فيها، ويُطلب منهم التكيّف سريعًا لأن “الكبار قرروا”.

والمجتمع؟ غالبًا لا يرحم. يطرح أسئلته القاسية على المرأة: لماذا لم تحافظي عليه؟ لماذا أدخلتِ صديقتك بيتك؟ ماذا ينقصك؟ أسئلة لا تُطرح بنفس الحدة على الرجل، ولا على الصديقة، وكأن المرأة مطالبة بحراسة الجميع، وإن خان أحدهم، فهي المسؤولة لأنها وثقت.

لكن الحقيقة التي لا يريد كثيرون مواجهتها، أن بعض الرجال لا ينجرفون لأن زوجاتهم قصرن، بل لأنهم لم يتعلموا كيف يحافظون على ما هو ثابت. يفتنون بالجديد لأنه جديد، لا لأنه أفضل. يهربون من عمق العلاقة إلى سطح الإعجاب، ومن مسؤولية الشراكة إلى نشوة الاختيار.

تبقى المرأة، بعد كل هذا، أمام مفترق طرق قاسٍ: إما أن تغرق في دور الضحية، أو أن تعيد بناء نفسها من تحت الركام. وليس في إعادة البناء خيانة للبيت أو للأبناء، بل محاولة نجاة. أن تفهم أن التضحية التي لا تُقابل بالاحترام ليست فضيلة، وأن الصبر الذي يُكافأ بالخذلان ليس قدرًا مقدسًا.

أن تدرك أن كونها كانت سندًا لا يعني أن تُدفن تحت أنقاض ما انهار، وأن الاستبدال لا ينتقص من قيمتها، بل يكشف ضيق أفق من استبدل. فبعض الخسارات، رغم قسوتها، تفتح بابًا لوعي جديد، ولحدود أكثر وضوحًا، ولنفس تُقدَّر أخيرًا لأنها تعلمت أن تحمي نفسها.

هي لم تخسر لأنها أحبت، ولم تُهزم لأنها صبرت، لكنها دفعت ثمن الوفاء في عالم لا يجيد رد الجميل. ومع ذلك، تظل الحقيقة الأهم: من كان سندًا مرة، يستطيع أن يكون سندًا لنفسه، وأن ينهض، لا لينسى، بل ليتجاوز، لا لينتقم، بل ليعيش حياة تليق بما قدمه يومًا دون مقابل.