الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. هبة شفيق تكتب: تدوينات الألم (3).. اختبارًا لا اختيارًا

صدى البلد

مرت الأيام وكانت بداية عام 2019، مليئة بالألم، والتعب، والإرهاق النفسي والبدني. عملتُ بجهد شديد، على صعيد عملي وواجباتي التي يفرضها علي موقعي الوظيفي بالجامعة، وعلى صعيد واجباتي المنزلية التي يفرضها كوني عضوا في أسرة وأتحمل قدرًا من المسئولية. مرت شهور لم أذق طعم النوم، وأيام تزيد فيها انفعالاتي وقلقي، أعمل بلا كلل، أعمل مهما كان الألم، أعمل لأنشغل عن إحساسي بالألم.


ثم جاء يوم 18 يوليو 2019، كان مهرجان مشاريع تخرج طلاب القسم، كنت متحمسة لحضور المهرجان، ومشاركة طلابي فرحتهم بصدور مجلتهم وجني ثمار عام من الجد والاجتهاد. استيقظت في ذلك اليوم وقد تمكن مني الارهاق، كنت أشعر بألم كألم الأسنان ينخر في كل عظمة، في كل عضلة من جسدي، ووقتها لم أرد أن أعكر فرحة طلابي الذين أحببتهم وخاصة عندما توالت الاتصالات على هاتفي.


كنت حينها مازلت في المنزل، طلبت من أختي الصغيرة أن تأتي معي، وبالفعل ذهبنا معا. أتذكر اني كنت أجر قدميي جرا متقدمة نحو قاعة المؤتمرات. قابلت الطلاب والزملاء، ولم يعد بإمكاني أن أكمل لأكثر من ذلك. أخرج من القاعة ثم أعود، الوقت يمر ببطء شديد والألم لا يكف عن تقييدي، ربما لاحظت إحدى الطالبات حالتي، فجاءت وطلبت مني أن أجلس مكانها، كانت القاعة مليئة ولا يوجد مقعد فارغ، في ذلك الوقت كنت أجلس في ممر مظلم بجانب القاعة. هكذا يفعل بك إحساسك الدائم بالألم، يتخطفك من القاعة الكبيرة للسعادة والمرح والود في الدنيا، ويجعلك عالقا في ممر مظلم ضيق، يكتم أنفاسك، ويسحق عظامك، ويُثقل لسانك. 


تمر الأيام وأنا لا أرحم جسدي الذي يئن، حتى جاء أول أيام عيد الأضحى كنت إلى حدٍ ما بحالة جيدة في بداية اليوم، لكن عند المغيب بدأت في الإحساس بألم وسخونة شديدة بالقدمين، ولم أتمكن من النوم طوال الليل. كل يوم يمر تتطور حالتي، ألم وسخونة شديدة بالكفين، ثقل وخدر بالذراعين والساقين، لسعات في الأطراف كالكهرباء، دوخة شديدة وفقدان للشهية، استمر الألم نفسه لمدة أسبوع كامل، إلى أن ارتفعت حرارتي، مع ألم بالظهر والرقبة والكتفين، وتشوش بالرؤية، وعدم القدرة على التذكر والكلام بشكل جيد.


وقتها لم أكن أعلم أنه كان يجب علىَّ الذهاب إلى الطوارئ، أنا شخص لا يرغب في أن يُوهم نفسه أو يُقلق من حوله، وفي يوم 18 أغسطس 2019 توجهت إلى العيادات الخارجية بالمستشفى لتحولني الطبيبة إلى الطوارئ.


أول تشخيص كان التصلب المتعدد MS وقتها لم أستوعب ما يقال وما يحدث، حالتي النفسية سيئة جدا. كنت خائفة على والديَّ أكثر من خوفي على نفسي، ولم يكن يعلم أي أحد من الأهل والأسرة سوى أختيّ. العديد من الاختبارات والأشعة، والأدوية التزمت بتناولها لشهرين دون فائدة، شهرين لم أستطع النوم، وفي يوم أخبرتي الطبيبة بأن ما أعانيه هو اضطراب القلق النفسي وليس لدي أي مرض عضوي، وعلي الالتزام بالمهدئ لمدة أسبوع ثم أعود في معاد الاستشارة، كانت النتيجة أن ساءت حالتي أكثر واشتد علىَّ الألم.


كنت لا أتوقف عن البكاء ليلا، أتحدث مع الله، أخبره أنه الوحيد الذي يعلم كم أتألم، يا الله أنا لا أتوهم ولا أدعي، يا الله كل الآلآم تكالبت على جسدي وأنت خالقي تعلم وهني وعجزي وقلة حيلتي، أخبره أنه سندي الوحيد وأنه العون على المرض والألم، أخبره أن حيرتي تزيد ولا يملك أحد سر ما بي إلا هو، فهو من بيده الخير وهو على كل شيء قدير.


وقتها فقط تأكدت الطبيبة أني لا أتوهم وبعد  العديد من الأشعة والفحوصات، كان التشخيص التهابا مزمنا بالأعصاب الطرفية، كما أظهرت الأشعة وجود الصلب المشقوق Spina Bifida، وهو عيب خِلقي يولد به الإنسان، حيث تلتحم فقرتين أو أكثر مع وجود شق لعدم اكتمال الفقرة، الأمر الذي يتسبب في ضغط تتراوح درجة شدته من البسيط إلى الشديد على الجذور العصبية، مع التأثير على عضلات الظهر والقدم. هذا العيب الخِلقي يصاب به الطفل وهو جنين خلال الشهور الثلاثة الأولى للحمل وحتى الأن لا توجد عوامل مؤكدة تفضي إليه.


بدأت في القراءة كثيرًا والبحث في المواقع والدراسات الأجنبية حول هذا العيب الخلقي، وحتى في المنتديات كنت أبحث عن من لديه نفس التجربة، ووجدت منتدى بدولة عربية كان بعض أعضائه يتحدثون عن أن منهم من ولد بالصلب المشقوق، منهم من كان يعلم ذلك منذ الصغر، وآخرون مثلي لم يعلموا إلا صدفة وهم في مرحلة الشباب.


كان وقتا عصيبا أُثقلت فيه بأكثر مما أطيق من الألم والتعب، لكني خلصت منه إلى أن الإنسان لا يجب أن يخجل من مرضه، الإنسان لم يختر أن يولد بعيب خِلقي، لم يختر أن يصاب بمرض مزمن، وبالتأكيد لم يختر أن يعيش الباقي من عمره متألمًا، وبالتالي لما الخجل، ولمَ الانطواء!