الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نابليون ومشايخ الأزهر في منزل الشيخ السادات



إن اللحظة الفائقة الخصوصية في حياة الأمة الإسلامية، كانت واضحة أوضح ما يكون حينما استطاع نابليون بونابرت أن ينزل بأسطوله إلى الإسكندرية ويتقدم رويدا رويدا واصلا للقاهرة محتلا مصر، حيث كانت الفوارق الهائلة في الأسلحة هي الحاسمة في تلك المعارك التي خاضها فلم تستطع قوات المماليك مقاومته، ولم تنجح المقاومة الشعبية الباسلة من صد هذا الغزو.
استفاق المصريون والمسلمون جميعا على هذا الفارق الهائل في القوة، لقد كانت بلادنا يخيم عليها ظلام دامس، في حين فرنسا وذلك الجزء الصغير من العالم المعروف بالقارة الأوروبية، كان قد خطى في تحرير العقل خطوات كبيرة، ولعلنا يمكن أن نعوز السبب الرئيس في ذلك إلى تلك الوقفة التي وقفها المفكرون والفلاسفة في توقيت واحد تقريبا في كل القارة، وذلك على إثر قرنين من الحروب الطاحنة نتيجة للتعصب الديني راح ضحيتها الملايين من البشر، توقف هؤلاء المفكرون والفلاسفة الذين وصلوا إلى أزمة وعي ليتساءلوا: لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟!. لماذا كل هذه الحروب الدينية على امتداد قرنين؟!.
هذا الذي دفع تلك العقول الجبارة إلى العمل على تغيير المنظومة الفكرية السائدة في هذه البلدان وكان لهم - بعد معركة حامية الوطيس مع الرجعيين تشرد خلالها كل المفكرين والفلاسفة، فسجن منهم من سجن، وقتل منهم من قتل، وحرق منهم من حرق، نقول وكان لهم ما أرادوا حيث تم تشكيل الوعي في أوروبا، هذا الذي يتم اختصاره في جملة واحدة دالة معبرة: كان أغلب الفرنسيين، مثالا للأوروبيين، يفكرون مثل بوسويه "رجل دين" وفجأة صاروا يفكرون مثل فولتير "فيلسوف وأديب".

إن الجنرال نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر ١٧٩٨ هو ابن مرحلة الأنوار الأوروبية، والتي كان شعارها: "إنها خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه. قصور عجزه عن استعمال عقله دون إشراف الغير، قصور هو نفسه مسؤول عنه لأن سببه يكمن ليس في عيب في العقل، بل في الافتقار إلى القرار والشجاعة في استعمال عقلك أنت".
إذًاجاء نابليون إلى مصر وهو يحمل على كتفيه رأسا حوى آثار ونتائج مرحلتي النهضة والأنوار الأوروبيتين، تلك المرحلة الأخيرة التي مازال المجتمع العربي حتى اللحظة بعيدا عنها ذلك الذي يفسره المفكر المغربي عبدالله العروي من خلال ثلاث فئات هي الأكثر تأثيرا في مجتمعنا العربي ألا وهي فئات: الشيخ والتكنوقراطي والمثقف حيث يرى أن هذه الفئات الثلاثة قد أخطأت في فهم الأنوار وكيفية وصول العرب والمسلمين إلى تلك اللحظة الفاصلة في التاريخ الأوروبي والتي أصبحت فارقة في التاريخ الإنساني كله:
فمقاربة الشيخ: هي ما يمكن أن نطلق عليها "الأنوار المضادة" أي أنه يؤمن بأهمية حضور الأنوار، ولكنه سيحاول أن يصيغ من التراث ومن المخزون التاريخي والذاكرة الإسلامية أنوارا مضادة، هذه الرؤية نفسها قد عاصرت الأنوار في أوروبا حيث أنها ظهرت في مقابلها في حينه.
أما رؤية التكنوقراطي: فهي لا ترى الأنوار إلا من خلال نتائجها المادية من مؤسسات وتكنولوجيا أي كل الإنجازات التي هي خلاصة أو نتاج الأنوار والواقع أن ذلك ليس من نتاج الأنوار بل هي منتجات الثورة الصناعية التي بدأت لاحقا على عصر الأنوار في القرن التاسع عشر، في العام ١٨٤٠ بعد تعميم السكك الحديدية وظهور الصناعات الثقيلة. إذًا تلك المقارنة تخلط بين نتاج الثورة الصناعية اللاحقة للأنوار وما بين الأنوار في حد ذاتها.

أما مقاربة المثقف: هي باقة من النصوص الأساسية المؤسسة وهي نصوص تنتمي للقرن الثامن عشر، وترى أنه بترجمة تلك النصوص، بقدرة قادر أو بسحر ساحر، فإن الأنوار ستنتشر في بلادنا، وسيعم بعد ذلك نور الأنوار تلك البلاد، وهي مقاربة اختزالية ولا يمكنها أن تكون كافية لخلق وعي تاريخي بإشكالية علاقتنا بالأنوار. فالنصوص لا تستورد بهذا الشكل، وإن كانت تصلح شعاعا يضيء الطريق.
لم تكن الصدمة الأولى التي هي حملة نابليون على مصر عربيا وإسلاميا فقط، بل كانت نفس اللحظة قد حدثت في أماكن أخرى من العالم مثل اليابان والصين والهند، والتي كان لهم موقف غير الموقف العربي والإسلامي، وإن جاء متأخرا قليلا ولكنهم استطاعوا أن يلحقوا بركب الأنوار، محتفظين بهويتهم، التي لا ينسبون لها تلك الحضارة الحديثة التي هي نتاج للعقل الأوروبي حصرا.
نصل إلى حادثة كاشفة، لنتساءل بعد عرضها، هل تقدمنا خطوة منذ أن حدث ذلك اللقاء الذي جمع الجنرال الفرنسي بمشايخ القاهرة في منزل الشيخ السادات "وهو من أكبر الشيوخ مقامًا وأعظمهم شأنًا وأوسعهم جاهًا وثروة، وأعزهم منزلة بين الناس لأخلاقه الكريمة ولنسبه الشريف، حيث كان ينتمي للسادة الأشراف من سلالة الرسول -صلى الله عليه وسلم" ومن المعروف أن بونابرت كان قد أعلن تبجيلا هائلا للإسلام ونبيه وللمشايخ والأئمة يظهر ذلك جليا فيما قاله نابليون لجنوده: الشعوب التي سنعيش معها هي من المسلمين. مقالهم الأول من الإيمان هو "لا إله إلا الله، ومحمد رسول الله". لا تتعارضوا معهم؛ عاملوهم كما عاملتم اليهود والإيطاليين. احترموا المفتين وأئمتهم، كما احترمتم حاخاماتهم وأساقفتهم. فليكن لديكم نفس التسامح في الاحتفالات المنصوص عليها في القرآن الكريم، لمساجدهم، كما كان لديكم للأديرة، للمعابد، لدين موسى والمسيح. الجيوش الرومانية اعتادت على حماية جميع الأديان. ستجدون هنا عادات وتقاليد مختلفة عما وجدتموه في أوروبا، يجب أن تعتادوا عليها. الناس هنا سيعاملون النساء بشكل مختلف عنا؛ لكن في كل دولة، كل من يعتدي هو وحش. النهب لا يثري إلا عدد قليل من الرجال؛ إنه يهزنا، إنه يدمر مواردنا، ويصنع أعداء من الناس الذين من مصلحتنا كونهم أصدقاء. أول مدينة سنواجهها قد أنشأها ألكسندر الأكبر. سنجد في كل خطوة بقايا عظيمة جديرة بالمحاكاة الفرنسية. وهناك في أكثر من بيان للقائد الفرنسي تعظيما هائلا للإسلام والمسلمين وللمشايخ والأئمة، ذلك الذي يأتي، في رأينا، في إطار هدف سياسي ليس أكثر من ذلك مما ذهب له البعض من حبه بصفة خاصة للإسلام.
نعود إلى مأدبة العشاء التي دُعِيَ إليها نابليون تلك التي تلت دخول نابليون إلى مصر بعدما وصل إلى القاهرة، وبالتحديد في مساء يوم ١١ ديسمبر ١٧٩٨، حيث نظّم في بيت الشيخ السادات، وهو أحد كبار شيوخ القاهرة، كما رأينا، مأدبة عشاء دعي لها شيوخ القاهرة، ودعي لها الجنرال نابليون بونابرت للمحادثة والمذاكرة مع هؤلاء الشيوخ، وهذه الواقعة من أرشيف الدبلوماسية الفرنسية، فلقد سجلت في الوقائع والمحادثات ونشرت في الشهر نفسه، وللأسف ليس هناك أرشيف مصري، يسجل مثل هذه الحوادث الهامة، بهذا المستوى، أما الأرشيف الفرنسي يقول: دار حديث قبل العشاء وبعده بين الجنرال وشيوخ القاهرة، وفي هذا الحديث قال الجنرال مخاطبا الشيوخ الذين حضروا مأدبة العشاء:  في الماضي زمن الخلفاء، وهو يذكر الخلفاء لكي لا يقول المماليك، لأنه في سياسته يريد أن يحرر مصر من المماليك الذي يعتبرهم أجانب، ولذلك يقوم بإحالة لزمن الخلفاء، يقول لهم: في الماضي في زمن الخلفاء تفوق العرب في الفنون والعلوم، لاحظ الربط بينهما، لكنهم اليوم يرزحون في جهل عميق! ولم يفضل لهم شيء من علوم أسلافهم فأجابه الشيخ السادات: لقد بقي لهم القرآن الكريم وهو يجمع بين دفتيه كل المعارف. عندئذ سأله الجنرال: وهل يعلمكم القرآن طرق صناعة المدافع؟!. فأجاب جميع الشيوخ بحماس كبير: نعم.
هذا المشهد الذي اتصل به النخبة المسلمة مع الجنرال الذي هو في نهاية القرن الثامن عشر والذي هو ابن عصر الأنوار في أوروبا. فهو يحمل معه في حملته كل تراث الأنوار.

يعلق المحلل النفسي فتحي بن سلامة في كتابه "حرب الذوات"، كما يقول محمد جنجار، في ورقة بحثية له تحت عنوان - هل أخلف المسلمون الموعد مع الأنوار؟ - على هذا المشهد الحدث:  بأنه سلط الضوء على قوة نكران الواقع، الذي هو واحد من عوارض بعض الأمراض النفسية التي ترفض النظر إلى الواقع كما هو، ويؤكد أن هذا الحدث يظهر لنا قوة رفض الواقع عند رجال الدين آنذاك، الذي نزعم أنه مازال مستمرا بل تم التأسيس والتبرير، بل والتنظير لرفضه، ذلك النكران الذي اتخذ صورا سياسية بعد نشأة حركات إسلامية مثل حركة الإخوان المسلمين وتصويرها لشعار: الإسلام هو الحل!. ليتطور بعد ذلك في أواخر القرن العشرين في شكل هذيان جماعي أحيانا يبحث للكشوف العلمية المختلفة عن أصول لها في القرآن الكريم فيما عرف بالإعجاز العلمي للقرآن.
فهذه اللحظة مازالت آثارها واقعة وقائمة حتى اليوم في حياتنا الدينية والثقافية.
وإذا كانت إجابة الشيوخ "مقبولة"، لاختلاف كم المعلومات لدى المتحاورين: حيث أتى نابليون إلى القاهرة بعد حركة الاستشراق بقرن ونصف، وجاء وهو يعلم الكثير جدا عن الوضع، ليس في مصر أو العالم الإسلامي فحسب، بل عن كل مناطق العالم المختلفة، وكما هو معروف فإنه في عملية اتخاذ أي قرار، فإن صوابه يصح طرديا مع كم المعلومات المتوفرة، تلك المعلومات التي لم يكن يعلم عنها الشيوخ شيئا عكس نابليون الذي كان يعرف تقريبا كل شيء عن العالم الإسلامي!. إن كانت إجابة الشيوخ "مقبولة"، فإنها لم تعد مهضومة في عصر يجب أن تكون المعلومات فيه، على الأقل المسموح منها، متوفرا بشكل كبير.
ونحن، من ناحيتنا، هنا نحيل إخفاق موعدنا مع الأنوار على كاهل المفكرين والمثقفين العرب الذين هم المنوط بهم كما كان منوط بمفكري وفلاسفة أوروبا استحضار هذا اللقاء، هذا اللقاء لا يعني استنساخ تلك التجربة الأوروبية ولا السير على خطى اليابان والصين والهند الذين استطاعوا الوصول إلى تلك اللحظة، فرأينا اليابان في مصاف الدول المنتجة للتكنولوجيا وننتظر العملاق الصيني ونشاهد التقدم الهندي.
إن أهم خصائص عصر التنوير هو الاعتماد على العقول المعاصرة، مثلما حدث في أوروبا، فالموتى لن يصنعوا لنا حضارة، هذا الذي لا يعني إهمالهم كتراث نعتز به، ولكننا يجب أن نتعز بمن يقدم فكرا معاصرا ونستشهد به أكثر من اعتزازنا بهؤلاء الراحلين الذين أفادوا أمتهم وعصورهم أيما إفادة في عصرهم، وما يصلح لعصرهم، مستحيل أن ينهض به عصر مغاير، مهما جمّلنا في التقديم، ومهما استخدمنا من محسنات كلامية لن تقدم بل ربما ستعوق الحركة للأمام.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط