الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مع مارتن لوثر


استيقظ ليلا الراهب الخائف المذعور دوما، من عقاب الله، ليقرأ في الكتاب المقدس، ليفهم أن الحصول على النعمة ليس بالعمل كما كان يعتقد، بل بالإيمان بقبول الخلاص الذي قدمه الله في الصلب لابنه المفدى. هذا الذي يمكن أن نجد له شبيها في ديننا الإسلامي وذلك في حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، هذا الحديث الذي يوفّق الشرّاح والمفسرون بينه وبين الأعمال الصالحات التي يجعلونها سببا في هذه الرحمة.


كانت تلك الحادثة، كما يقول مارتن لوثر، قد أزالت الغشاوة عن عينيه، فانطلق المصلح في طريق طويلة كانت نتيجتها، إسالة دماء هائلة، وإرهاق أرواح عديدة، واندلاع معارك طاحنة، في مسيرة دموية للإصلاح الديني في أوروبا، ذلك الذي تحقق في نهاية المطاف؛ لتنعم أوروبا اليوم بهذا التسامح الهائل بين شعوبها.


انطلقت حركة الإصلاح البروتستانتية على يد مارتن لوثر في ألمانيا وانتقلت منها إلى مدينة جنيف التي أطلق عليها "روما البروتستانتية"، ويُعدّ هولدريخ زْوينگـْلي يناير 1484 – 11 أكتوبر 1531، من أبرز الشخصيات في حركة الإصلاح الديني في سويسرا، والذي حظيت أفكاره بالترحيب، وخاصة من أصحاب المشاريع ورجال الأعمال والنقابات، والذي قُتل في أحد المعارك، ولا يمكننا اختصار الإصلاح في سويسرا في شخصية واحدة أو في مكان واحد. فقد كانت جنيف مركزا رئيسيا آخر للبروتستانتية. حيث وصل رجل القانون الفرنسي جان كالفن إلى جنيف في عام 1536. وفي العام الذي سبقه، نشر في بازل أكثر النصوص اللاهوتية تأثيرا في حركة الإصلاح تحت عنوان "تأسيس الديانة المسيحية".


وقبل أن يرحل كالفن إلى سويسرا كان قد بشّر بــ "البروتستانتية" حركة الإصلاح الديني في فرنسا، وذلك لأن الأرضية كانت مهيأة لها في فرنسا، من خلال حركات كانت تنتقد الكنيسة، هذا النقد الذي كان متنفسا للفرنسيين، أما الحادثة التي كانت حاسمة في هذا الشأن فهي حينما تم لصق منشورات على باب قصر اللوفر في فرنسا، تتهجم على البابا وعلى الكنيسة، بل وتدعو الملك الفرنسي بشن حرب على الكنيسة، وفرنسا، كما هو معروف، هي الابنة الكبرى في ذلك الوقت للكنيسة، وملك فرنسا هو حامي الكنيسة فكان من واجبه أن يدخل في صراع  مع هذه الحركة الإصلاحية، هنا كانت بداية الحرب على الحركة، هذه التي ستتطور لتستمر قرنا كاملا من الحروب الدينية المذهبية في أوروبا والتي راح ضحيتها عشرات الملايين من القتلى، كان أفظعها في الثالث والعشرين من أغسطس من العام 1572 حينما ذبح الآلاف من البروتستانت في باريس وإلقاء جثثهم في نهر السين الذي تحول إلى اللون الأحمر لون الدماء. هذا الحدث الذي يمثل وصمة عار ليس في تاريخ الدين  المسيحي فحسب أو فرنسا فقط بل في تاريخ جميع الأديان وكل الدول. خاصة وأن تلك المذبحة الرهيبة كان قد تم التخطيط لها من قبل الملكة التي أعلنت عن حفل زفاف زعيم اللوثريين على ابنتها، ودعت لذلك الضيوف اللوثريين وفي ليلة الزفاف أغلقت أبواب القصر بعد دخول المدعوين، وتم ذبح الكثير ممن لبوا دعوة حضور هذا الزفاف. ونجا من محاولة اغتيال "العريس" الأدميرال كوليني البروتستانتي والذي كان قد أصيب في ذراعه.


هنا خافت كاثرين ملكة فرنسا، في ذلك الوقت، من نتائج التحقيق التي قد تفيد بأنّها من أعطت الضوء الأخضر لمحاولة الاغتيال الفاشلة. فالتقت سرًا مع مجموعة من النبلاء في قصر تويلري لتخطط لإبادة زعماء البروتستانت عن بكرة أبيهم، والذين كانوا لا يزالون في باريس من أجل احتفالات الزواج.


أقنعت كاثرين – بكثيرٍ من الضغوطات – ابنها المضطرب الملك تشارلز التاسع بالموافقة على هذا المخطَّط الفظيع، وفي مساء يوم 23 أغسطس/آب عام 1572 استُدعي أعضاء المجلس المحلي في باريس إلى متحف اللوفر وتلقوا الأوامر.
وقبل الفجر بوقتٍ قليل، في يوم 24 أغسطس/آب، دقّت أجراس كنيسة سان جيرمان لوكسيروا وبدأت معها المذبحة الرهيبة.


والتحقت إنجلترا بالإصلاح البروتستانتي، هذا الالتحاق الذي كان له قصة طريفة، حيث إنه كما هو معروف، ليس هناك طلاق في الكاثوليكية، وكان الملك يحب فتاة غير زوجته التي لم يكن يَكُنّ لها من مشاعر الحب شيئا، خاصة وأنها لم تستطع أن تنجب له مولودا ذكرا ليصبح وليا للعرش، في ذات الوقت الذي كانت قد وعدته حبيبته، التي لم ترض تلعب دور العشيقة في بادئ الأمر، أن تمنحه مولودا ذكرا، وهو ما لم يحدث، بعد زواجهما، الذي جاء بعد تطليق زوجته، وكانت نهايتها أن قطع الملك رأسها بتهمة الخيانة، لم يكن أمام هنري الثامن إلا أن يخاطب بابا روما "كليمنت السابع" لتطليقه من كاثرين أراغون، التي يرى أن زواجه منها جاء مخالفا لإرادة الله، وما ذلك إلا لأنه تزوج بها لأنها أرملة أخيه آرثر أمير ويلز المتوفى 1502. هذا الذي لم يوافق عليه البابا فاتجه الملك لحل جميع الأديرة الكاثوليكية ومصادرة ممتلكاتها ما بين عامي 1536 و1540 لتبدأ إنجلترا بذلك باعتماد سياسة إصلاح ديني جديدة قطعت مع الكاثوليكية.


أما ألمانيا فكانت قد شجعت لوثر على توجيه السهام للكنيسة في روما وللبابا الذي كان قد عرض صكوكا للغفران، تلك التي كانت، على زعم الكنيسة، تضمن أن يتخطى هؤلاء الذين يشترونها مرحلة وفترة المطهر في اليوم الآخر، وكان البابا يرسل من يبيع صكوك الغفران هذه إلى المواطنين الألمان، وكان يشرع في ذلك الوقت لإعادة بناء كاتدرائية القديس بطرس في روما، ففي عام 1516 أُرسل يوهان تيتزل، الراهب الدومينكيان والمفوض البابوي الخاص إلى ألمانيا لبيع صكوك الغفران، بغية جمع الأموال اللازمة لهذا العمل.
في ألمانيا لم يكن لوثر (10 نوفمبر 1483 - 18 فبراير 1546) مجرد مصلح ديني، ولا صاحب ثورة دينية قسمت أوروبا إلى قسمين: أحدهما وهو أوروبا الشمالية مع الإصلاح اللوثري والآخر متمسكا بالكاثوليكية.


إن لوثر يعد باعثا للروح الألمانية، فبتلك الجرأة التي امتلكها في مواجهة البابا ورجال الدين، وترجمته للكتاب المقدس، تلك الترجمة التي كانت ممنوعة، من اللاتينية إلى اللغة الألمانية، التي لم تكن أكثر من لهجة لا تحظى بتقدير يذكر، كان لترجمة لوثر الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية، فائدة عظيمة على اللغة نفسها، بالإضافة إلى الهدف الرئيسي من ذلك وهو أن ينظر الإنسان العادي في الكتاب المقدس دون الحاجة إلى وسيط من رجال الدين، في محاولة منه لتحويل الإيمان من سيطرة جماعة عليه وتوجيه عموم الشعب، وجعل إيمانهم مربوط بهذه الجماعة، إلى إيمان فردي ينبع من داخل المؤمن ويصبح مسؤولا عن إيمانه، كما يمكنه أن يفتح الكتاب المقدس، بعدما أصبحت لغته مفهومة للجميع، وبعدما كان مواطنه يوهان غوتنبرغ قد اخترع المطبعة، هذا الذي جعل من السهولة بمكان أن يقرأ المواطن العادي الكتاب المقدس ويتعرف هو على ما يريده الإله الخالق.


لقد استطاع لوثر، بما فعله هذا، أن يؤكد لعامة الألمان، ومن بعدهم العديد من الشعوب الأوروبية، أنهم ليسوا في حاجة إلى رجال دين لكي يفسروا لهم دينهم، بعد ترجمة الكتاب المقدس بلغة بسيطة، حيث إن الإيمان هو علاقة مباشرة بين المؤمن وربه، ولا حاجة لوسيط في هذه العلاقة.


لقد رفض مارتن لوثر أي وصاية دينية على عموم الناس، وفضح رجال الدين وألاعيبهم وحذر الناس منهم مؤكدا أن همهم هو استغلال ليس البسطاء من الناس فحسب، بل كل الناس، من أجل مصالحهم الشخصية، وها هم، كما يذكر لوثر، يكنزون الذهب ويتنعمون في الثروات الطائلة وعموم الشعب يقاسي شظف العيش!. ومطلوب من أبنائه، رغم ذلك، أن يدفعوا ليشتروا صكوك الغفران!.


لقد استنكر لوثر هذا الأمر ونشر في ذلك 95 أطروحة يندد فيها دخول المال في الدين، ويطرح من خلالها فكرا جديدا، ذلك الذي أثار صدمة كبيرة في الكنيسة، وهنا وقع "تكفيره" بالمصطلح الإسلامي، إن جاز التعبير، أو تم طرده من الكنيسة، هذا الطرد كان له وقع هائل حيث أحدث حركة لا يمكن لها أن تتوقف، فهذه الحركة التي هي دينية في أصلها تلاقت مع رغبة اقتصادية وسياسية من أمراء ألمانيا للتحرر من هيمنة روما، ورأى الأمراء وخاصة أمير مقاطعة ساكس  في إصلاح لوثر عملية مربحة اقتصاديا له، لأنها ستمنع انتقال الأموال التي كان سيتم شراء صكوك الغفران بها وغيرها من الأموال التي كانت تذهب كل عام من الكنائس الألمانية إلى روما، فاحتضن لوثر وطلب منه أن يكتب أفكاره وأن يبلور مشروعه الإصلاحي واعدا إياه بالحماية وأخفاه بالفعل في قصر له.


لقد قسم المصلح الكبير مارتن  لوثر قبل 500 سنة العالم المسيحي إلى نصفين: نصف مع الإصلاح الديني ونصف ضده، هذا الذي كانت نتيجة له كل تلك الحروب التي يندى لها جبين الإنسانية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى مشرقة يرى المؤرخون المختصون أن الإصلاح الديني الذي حدث وكان إمامه وملهمه القس المصلح مارتن لوثر، هذا الذي تزامن مع عصر النهضة وإشراقة الشمس الرائعة، يمثل تلك  اللحظة الحاسمة ليس فقط بالنسبة للأمة الألمانية، وإنما للشعوب الأوروبية بمجملها.


لقد استطاع لوثر بشجاعة وتصميم أن يجدد فهم الدين وأن ينتصر للإيمان الفردي الذي يجعل العلاقة بين الإنسان وربه علاقة عمودية ليس هناك وسيط فيها من كهنوت أو رجال دين يزعمون أنهم فقط من يستطيعون تفسير ما جاء في الكتاب المقدس، لقد شجع لوثر الإنسان أن ينظر بنفسه في الكتاب المقدس وأن يفهم ما يريده الله منه، فقوّم اعوجاج الفهم الديني وانحرافاته.


إن هذه المعركة العنيفة التي وقعت بين الإصلاحيين البروتستانت من جهة وبين الكاثوليك من ناحية ثانية، كان لها فوائد كبيرة على الديانة المسيحية، حيث خرجت من هذه المعارك قوية ولم تتأثر تأثيرا سلبيا، ما يؤكد أن في الإصلاح فوائد لا يمكن أن يتحصل الدين عليها إلا من خلال هؤلاء الشجعان من رجال الدين.


إن هذا الإصلاح كان من المستحيل أن يذهب إلى تصوره صاحب أكثر الخيال جنوحا في نهايات العصور الوسطى في أوروبا، حيث لم يكن ليتفق مع مفاهيم الإيمان المسيحية، التي يوجد بها كهنوت ديني، والذي نردد نحن، المسلمين، ليل نهار، أنه ليس موجودا في ديننا الإسلامي، ولكن هل هذا حقيقي؟!. أم أن رجال الدين، ليس الثقاة من العلماء منهم فحسب، بل حتى هؤلاء غير المؤهلين ويتخذون من الدين مجالا لنشاطهم، يسيطرون سيطرة كلية على عقول المسلمين.
والسؤال قبل الختام: هل لسنا في الإسلام في حاجة إلى مصلحين دينيين؟!
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط