الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

من الفضاء إلى الأرض.. قصة بطل الاتحاد السوفيتي الخارق وقوته الناعمة

صدى البلد

ابتسامته كانت تخطف القلوب وكانت شخصيته مختلفة تمامًا عن الانطباع الصارم الذي كان يكونه الغرب عن الاتحاد السوفيتي سابقًا، وهو ما جعله يصبح بطل الاتحاد السوفيتي الخارق وقوته الناعمة.. إنه يوري جاجارين أول إنسان يطير إلى الفضاء في العالم.

كانت شخصية يوري جاجارين  الودودة والساحرة والابتسامة التي ترتسم على وجهه على الدوام سببًا في تحوله إلى أداة دعائية فعالة في أيدي الاتحاد السوفيتي سابقًا.

كانت الابتسامة هي التي حسمت الأمر. الحديث هنا يتناول المنافسة، التي دارت بين أول مجموعة من طياري سلاح الجو السوفيت، في النصف الثاني من القرن الماضي، لكي يُختار من بينهم أول رائد فضاء على الإطلاق. المجموعة كانت تتألف من 20 طيارا، وضمت شبانا سجلوا أسماءهم في ما بعد في تاريخ ارتياد الفضاء.

فقد كان من بين هؤلاء، جيرمان تيتوف، الذي لا يزال يحتفظ بلقب أصغر من شارك في رحلة فضائية على الإطلاق، إذ قام برحلته الأولى في السادسة والعشرين من عمره، وكذلك أليكسي ليونوف، أول شخص يسبح في الفضاء، بعدما ترك كبسولته الآمنة، في إحدى رحلاته للقيام بإحدى المهام خارجها.

رغم ذلك لم يكن لأي منهما، قصب السبق، في أن يكون أول بشري ينطلق إلى الفضاء. فالمعايير التي وضعها المسؤولون السوفيت لمن ستُسند له هذه المهمة، لم تكن تقتصر على امتلاك رائد الفضاء المستقبلي المهارات الفنية، التي تضمن له القيام بعمل لم يسبقه إليه أحد والعودة سالما إلى الأرض دون أن يتمزق أشلاء. فقد تضمنت كذلك ضرورة أن يتحلى من سيُختار لذلك بشخصية هادئة وواثقة كذلك.

هنا تحديدا جاء دور ابتسامة يوري جاجارين، التي قيل إنها كانت قادرة على أن تذيب أكثر القلوب قسوة. ولم يكن المسؤولون في أعلى مستويات السلطة بالاتحاد السوفيتي السابق، استثناءً من ذلك. ولذا فعندما التقى سيرجي كاراليف، كبير المسؤولين عن تصميم الصواريخ في الاتحاد السوفيتي، للمرة الأولى مع الطيارين العشرين الذين دُرِّبوا على السفر في الفضاء، قضى الجانب الأكبر من وقته معهم، في الحديث إلى جاجارين ذي الشخصية الجذابة، والذي لقَّبَه كاراليف نفسه بعد ذلك بـ "نسري الصغير".

وفي 12 أبريل 1961، انطلق جاجارين في رحلته الفضائية التاريخية على متن مركبة الفضاء "فوستوك 1"، وذلك في مهمة لم تستمر سوى ساعة و48 دقيقة، وهو ما يقل كثيرا عن متوسط مدة أي من الأفلام السينمائية، التي يمكنك أن تشاهد إحداها اليوم، في دور العرض متعددة الشاشات. المفارقة أن البنية الضئيلة لجاجارين وقوامه القصير، أثبتا فائدتهما في إنجاح مهمته كذلك.

وانطلقت الرحلة الفضائية من مركز بايكونور الفضائي، الذي يقع الآن في كازاخستان. وتمثلت نقطة انطلاق الرحلة في كلمة همس بها جاجارين بجذل قائلا "فننطلق". وبعد أقل من ساعتين، عادت المركبة إلى كوكبنا، وحطت قرب مدينة إنجلز غربي روسيا. أما جاجارين نفسه، فقد هبط بعد ذلك بدقائق على الأرض بواسطة مظلة.

وتمثل شهود هذه اللحظة التاريخية، في مُزارِعة وحفيدتها رأتا الكبسولة الفضائية ذات الشكل الدائري، وهي تقترب ببطء من الأرض، قبل أن تتلقيا التحية من جانب جاجارين، وهو لا يزال يرتدي سترته الفضية. وفي ما بعد كتب رائد الفضاء الروسي الراحل تفاصيل ما حدث قائلا: "قلت لهما، لا تخافا، أنا سوفيتي مثلكما، لكنني هبطت من الفضاء، ويتعين عليّ العثور على هاتف للاتصال بموسكو". وفي غضون أسابيع قليلة من ذلك اليوم البعيد، أصبح وجه هذا الرجل، أحد أشهر الوجوه في العالم بأسره.

وبعدما أصبح جاجارين أول إنسان يغزو الفضاء، اختار المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم وقتذاك في الاتحاد السوفيتي السابق، له مهمة أخرى، وهي "غزو العالم". فقد علمت قيادة هذا البلد أن نجاح تلك المهمة الفضائية الأولى، سيجعل من قام بها وجها معروفا في شتى أنحاء المعمورة، ما حوّل جاجارين إلى أحد "أسلحة القوة الناعمة".

في بادئ الأمر، أسدل السوفيت ستارا من السرية على مهمة جاجارين، حتى عاد بسلام إلى الأرض، ثم أذاعوا أنباء الرحلة على نطاق واسع، من خلال وكالة الأنباء السوفيتية الرسمية سابقًا (تاس)، ما أحدث موجة من الصدمة في مختلف أنحاء العالم، خاصة في الولايات المتحدة، التي كانت تحاول أن تتفوق على الاتحاد السوفيتي السابق، في إرسال أول رحلة مأهولة إلى الفضاء.

وفي تقرير أعدته وكالة الطيران والفضاء الأمريكية (ناسا) عن مهمة جاجارين، سردت الوكالة تفاصيل اللحظات الأولى لوصول الأنباء الخاصة بها إلى الولايات المتحدة قائلة: "في نحو الساعة الرابعة صباحا، بدأت أجراس الهواتف تدق على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، إذ كان الصحفيون يريدون الحصول على ردود من مسؤولي ناسا على التقرير الذي بثته تاس". وبحسب تقرير ناسا، رد أحد مسؤولي الوكالة وهو نصف واعٍ على من كان يسأله قائلا: "كلنا هنا نائمون"، ما بإحدى كبريات الصحف الأمريكية، لأن تصدر في وقت لاحق من اليوم نفسه، وعلى صفحتها الأولى عنوان يقول: "السوفيت يضعون رجلا في الفضاء ومتحدثٌ يقول إن أمريكا نائمة".

في هذه المرحلة، كان جاجارين مجرد اسم لشاب كان في السابق طيارا مغمورا في سلاح الجو السوفيتي. لكنه تحول بين عشية وضحاها، إلى شخص تُدَق له الطبول، باعتباره أول مستكشف للفضاء في العالم كله. وقد كُشِفَت هويته للمرة الأولى في 14 أبريل 1961، أي بعد يومين من عودته للأرض، وذلك خلال تجمع حاشد أُقيم في الميدان الأحمر في موسكو، عقب موكب جاب المدينة، وقطع مسافة بلغت 10 كيلومترات (12 ميلا)، بحضور ملايين المواطنين السوفيت.

بُعيد هذه الاحتفالات، سرعان ما تجلت الجاذبية الشخصية التي كان يتمتع بها جاجارين وكذلك ابتسامته الحاضرة. فقد انهالت عليه الدعوات لزيارة الكثير من الدول في شتى أنحاء الأرض. ويقول إليس إن الحشود كانت تستقبل ذلك الرجل أينما حل "حتى في المملكة المتحدة، التي كانت تصطف بوضوح داخل المعسكر الأمريكي. ومن العسير علينا للغاية أن نفهم الآن أسباب هذا الاهتمام. فالناس وقتها كانوا لا يريدون، سوى إلقاء نظرة عليه".

وبعد ثلاثة شهور من قيامه برحلته الفضائية التاريخية، زار جاجارين المملكة المتحدة، وذلك في خطوة كانت مُحاطة بالحذر الشديد في بادئ الأمر. فقد حرصت بريطانيا، الحليف البارز للولايات المتحدة، على تجنب أي تعقيدات سياسية يمكن أن تكتنف هذه الزيارة، رافضة أن تعتبرها "زيارة دولة"، رغم وجود وفد رسمي يرافق جاجارين خلالها. وقد بوغتت السلطات البريطانية على الأرجح، بما اكتست به زيارة جاجارين  من إثارة. فقد وجهت نقابة لعمال المسابك في مدينة مانشستر دعوة لرائد الفضاء السوفيتي لزيارتها، وذلك تكريما لعمله السابق في هذا المجال. وقد قبل جاجارين الدعوة، ما أدى لتمديد فترة مكوثه في بريطانيا. وتخللت زيارة جاجارين إلى مانشستر لحظة شهيرة للغاية، حينما بقي في السيارة مكشوفة السقف، التي كان يجلس فيها في إحدى شوارع المدينة رغم بدء تساقط الأمطار، قائلا إنه يفعل ذلك "لأن هؤلاء الناس جاءوا لرؤيتي".

وقد تزامنت الجولة التي قام بها جاجارين حول العالم، مع مرور العلاقات بين الشرق والغرب، بمرحلة دقيقة. فقد سبقت بشهور قليلة بناء جدار برلين، كما أنها بدأت قبل بضعة أيام، من إحباط محاولة مدعومة أمريكياً لغزو كوبا، عُرِفَت باسم "خليج الخنازير". وبعد عام من الجولة، وقعت أزمة الصواريخ الكوبية، التي وضعت العالم على شفا مواجهة نووية، وذلك أكثر من أي وقت مضى. وفي غمار كل هذه التوترات، شَكَلَّت زيارات غاغارين لحظة نادرة للاحتفال، وكذلك وسيلة محتملة لتحقيق انفراجة بين القطبين الأكبر في العالم وقتذاك.

ويقول جوربير سينج، الصحفي المتخصص في شؤون الفضاء الذي سبق له تأليف كتاب عن زيارة يوري جاجارين للمملكة المتحدة، إن "جاجارين اعتُبِرَ بطلا خارقا" خلال هذه الزيارة، في ضوء "أنه خَبُرَ ما لم يَخْبُرُه أحد قبله. فبخلاف السرعة والارتفاع القياسييْن اللذيْن وصل إليهما.. دلف هذا الرجل إلى عالم مختلف؛ قوامه الفضاء والجاذبية الضئيلة وانعدام الوزن، وهو شيء لم يمر به أحد من قبل على الإطلاق، بل وظل أمرا عصيا على أي إنسان آخر، لعدة شهور تالية".