الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد الجزيري يكتب: أين نحن منك أيها الشيخ مُجاهِد «المجاهد»؟!

صدى البلد

مُذ أن التحقت بقسم التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر وأنا أتتبع هذا الشيخ المعمم الذي تبدو عَمامته مختلفة عن باقي العمائم، إذ بها زخارف من الأعلى وتشبه إلى حد كبير عَمامات أهل الشام.
وللوهلة الأولي أثناء الحديث مع أستاذنا الدكتور مجاهد توفيق الجُندي، وجدت بحرًا زاخرًا بالعلوم والفنون إنه الأستاذ الدكتور مجاهد توفيق الجندي العالِم الماهر والخطاط الباهر أستاذ كرسي الحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف.
بدأت علاقتي به منذ السنة الأولي في الكلية ولا أخفي سرًا إعجابي الشديد بشخصيته التراثية المحبة للعلم. 
في عام 2013 اتجهت رحلة القسم العلمية إلى محافظة الوادي الجديد، وفي أثناء إحدى التنقلات داخل الواحات استوقف أستاذنا الحافلة، وطلب من طلاب القسم النزول، ونزلنا فوجدناه يُمسك بأعواد من الخوص جلبها من الأرض، وأخذ يشرح لنا كيف تتم صناعة الأقلام من هذه الأعواد؟.
كان جُل تفكيره إخراج أجيال تدرك ماهية الكتابة العربية والفنون الإسلامية.
ومرت الأيام، وتخرجت في الكلية، والتحقت بالخدمة العسكرية، وفي يوم من الأيام وجدت هاتفي يرن، وإذ به أستاذنا الدكتور مجاهد يتصل ليسأل عن أحوالي، وحالي في الجيش، -وكان يرحمه الله ضابط احتياطي في القوات المسلحة وبطلا من أبطال النصر- وهل قدمت في الدراسات العليا أم لا؟ وبدأ يدفعني  للدراسات العليا وألا أسوَّف، فزادني هذا الأمر حماسًا شديدًا... -وكان هذا دأبه مع الباحثين في كل مكان-
وبعد انتهاء فترة الخدمة العسكرية والتحاقي بسوق العمل، عملت مدرسًا للتاريخ في إحدى المدارس الدولية، واختفيت فترةً عن الكلية وعن التواصل مع أستاذنا، وفي إحدى الأيام ذهبت إلى كليتي (كلية اللغة العربية جامعة الأزهر بالقاهرة)، وإذ به أمامي في مدخل الكلية، فرفع عصاه وضربني ضربةً خفيفة، ضربةَ مُحب وزجرني علي عدم الاتصال به.
فلما انتهى اللقاء قبَّلت يديه واعتذرت منه بسبب العمل.
وتمر الأيام وألتحق بتمهيدي الماجستير وأجلس على يد أستاذنا -الراحل- في مادة الكتابة العربية، ويأتي أستاذنا بصندوق كبير ملئ بأدوات الكتابة العربية، ويعلمنا بشكل عملي كيف نبري أقلام الكتابة؟ وكيف نُمسك القلم بشكل صحيح؟ ونماذج من قَطع الورق التي يتم الكتابة عليها، فكانت بمثابة ورشة خط عربي لنا.
كنا نجلس في محاضراته في الماجستير بالساعات، تتفتح الكثير من الموضوعات البحثية في مناقشاته، وفي كل مرة يعرض علينا أستاذنا مخطوطات ووثائق تخص الأزهر الشريف وطلابه، فكنا نسأله كيف حصل عليها، فيجيب أنه أثناء نقل مشيخة الأزهر من المبنى القديم إلى المبنى الحالي كان يتم ترك المخطوطات والوثائق دون اهتمام، فكان أستاذنا يشمر عن ساعديه ويبحث في الأنقاض، وفي الدواليب القديمة، وخلف مواسير الصرف الصحي عن الوثائق، كذا حدث الأمر نفسه أثناء ترميم الجامع الأزهر، كان رحمه الله يتجول بين الأروقة كاشفًا عن تراثنا، وكتب مقالًا رائعًا بعنوان: "أنقذوا ماتبقى من تراث الأزهر" فكانت مقالة لها دوي عظيم في الأوساط الأزهرية والثقافية، نجم عنها إنشاء مكتبة الأزهر العملاقة في الدَّراسة.
كُنا نجلس في السنة الثانية من التمهيدي حوله في حلقة صغيرة ويأتي إلينا بوثيقة نادرة لُيدربنا بشكلٍ عملي على كيفية قراءة الوثيقة.
ولقد كان أستاذنا الراحل يحب طلاب جنوب شرق آسيا وطلار إفريقيا وكل الوافدين حبا كبيرا، وعندما يجد واحدًا منهم يقربه إليه، ويسأله عن وطنه وجغرافيته، وكانت له جولات ومؤتمرات في شتى أنحاء المعمورة، وفي أغلب المحافل العلمية يُعرف كالطود العظيم.
كان أستاذنا عالمًا بالأنساب، بل كان من كبار علمائها، وكان عندما يبدأ في الحديث مع أي شخص عن نسبه، وبمجرد الإفصاح عن اسم عائلته تجده قاموسا بل موسوعة متحركة بأنساب المصريين والعرب، يسرد له أسماء المشهورين من عائلته وقريته.
في مكتبة الإسكندرية وفي إحدى الدورات التي يعقدها مركز الخطوط بمكتبة الإسكندرية عرفت نفسي أنني من الأزهر الشريف، فأول ما تبادر لأذهان الحاضرين هو "أستاذنا الدكتور مجاهد"، فقد كان القسم يُعرف به.. وكان من اعتزازه وحبا للأزهر أن كان أزهرا يمشي على الأرض.. 
وتميز الراحل العظيم  بسخاء نفس ويد، فكان يأتي إلينا في مرات كثيرة بمخبوزات يوزعها علينا، ويطلب من عامل القسم أن يصنع لنا أكوابًا من الشاي.
رحمات الله عليه تترى، فقد كان نسيجًا مختلفًا، عاش للعلم وأفنى حياته في خدمته بشكل فريد،  فقد كانت له بصمته وفكره الخاص، وطريقته الخاصة بل وزيه الخاص به.. وسيظل هذا العالِم العظيم وإنتاجه العلمي والبحثي الكبير منهلا للأجيال.