الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محطات في حياة إبراهيم ناجي

طارق منصور
طارق منصور

في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر عام 1898م ولد الدكتور إبراهيم ناجي في حي شبرا، التي عاش فيها طفولته رغم أصوله التي تعود إلى المنصورة، ثم التحق بالمدرسة في حي باب الشعرية، إلى أن وصل إلى المرحلة الثانوية، التي تخرج فيها ليلتحق بكلية الطب بجامعة فؤاد الأول.

وحين تخرج في كلية الطب عام 1922م عين طبيبًا في هيئة السكك الحديدية، لينتقل بعدها إلى وزارة الصحة، ثم وزارة الأوقاف. وخلال رحلته الوظيفية عمل في سوهاج، ثم المنيا، ثم المنصورة عام 1927، ثم استقر به المقام في القاهرة، حتى تاريخ اعفائه من الوظيفة عام 1953م.

وخلال هذه الرحلة التي عاشها إبراهيم ناجي، هناك محطات بعينها يجب الوقوف عندها، المحطة الأولى هي محطة التعليم الأولي، التي أتمها بإجادة عدد من اللغات الأجنبية أهلته ليترجم عن الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. ولعل هذا نتاج لطبيعته الخاصة المحبة للعلم والتعلم، ولأن مدارسنا كانت تعج آنذاك بأبناء الأجانب الذين هاجروا إلى مصر بعد الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى توغل الفرنسيين والإنجليز في مصر عقب افتتاح قناة السويس. 

وهذا أدى بدوره لاختلاط أبناء الأجانب مع أبنائنا المصريين داخل المدارس، مما أكسب كل من الطرفين لغة الآخر، فكثير من التلاميذ الأرمن واليونانيين والإيطاليين كانوا مألوفين في مدارسنا، إضافة إلى أن اللغة الفرنسية كانت لغة الصفوة في مواجهة الإنجليزية لغة المحتل، الذي فشل في فرضها على المصريين. فأصبحت هناك حالة من الكوزموبوليتانية في مدارسنا.

أما المحطة الثانية في حياة ناجي فهي "صخرة الملتقى" بمدينة المنصورة، فقد شاء القدر أن يلتقي هناك مع أصدقائه الشعراء علي محمود طه وصالح جودت وغيرهما، وأطلقوا على موضع التقائهم اسم صخرة الملتقى، وهو ذات المكان الذي شهد تجربة غرامية خاصة لناجي على ضفاف النيل، ولما انتقل إلى القاهرة عاد ومعه جعبة من الذكريات والآهات والآلام لفراق الحبيب الذي كتب عليه فراقه، بزواجها من شخص آخر.

ومحطة صخرة الملتقى شهدت القصائد الأولى لناجي، والتي كان يرسلها للنشر في مجلة السياسة الأسبوعية، والتي لعبت دورًا رئيسًا في تشكيل وجدانه، وساهمت في بناء قصيدة ناجي المتميزة بسهولتها ورقتها وعذوبتها، وحلاوة مفرداتها، وجمال صورها الشعرية. 

وعن هذه الصخرة نظم ناجي:
سألتك يا صخــرة المـــلـــتــقى  متى يجمع الدهر ما فرقا
فيا صخرة جمعت مهجــتين  أفاء إلى حسنها المنتقــى
إذا الدهــــــــــر لـــــــــج بأقـــــــــــداره  أجدا على ظهرها الموثقا
قرأنا عليك كــــتاب الحــــــــــياة  وفض الهوى سرها المغلقا
نرى الشمس ذائبة في العباب  وننتظر البدر في المرتقى

أما المحطة الثالثة في حياة ناجي والتي كانت ذات أثر مباشر في حياته الأدبية هي انضمامه لجماعة أبوللو الشعرية عام 1932م، حتى صار وكيلاً لها. وهي الجماعة التي تأسست لتطوير القصيدة والارتقاء بها لتواكب العصر وتجمع بين جنباتها القديم والحديث في البناء الشعري. وهو الاتجاه الذي لم يرض عنه د. طه حسين أو عباس العقاد، اللذان هاجما هذه الجماعة بضراوة.

وكان من نتاج هذا الهجوم أن استقبل الديوان الأول لإبراهيم ناجي استقبالاً فاترًا، بل هاجمه طه حسين مدعيا أن ما كتبه لا يخرج عن كونه "شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه"، وهي إشارة ضمنية للتقليل من القيمة الأدبية لشعر ناجي، وإنه لا يرقى إلى مستوى القصيدة العربية الرصينة كالتي يكتبها أحمد شوقي أو حافظ إبراهيم وغيرهما.

ولاشك أن هذه المحطة كانت غصة في حلق إبراهيم ناجي، لم يستطع أن ينساها، ومع هذا تعامل معها بنظرية "الضربة التي لا تصيب تقوي"، وظل مستمرًا في منهاجه الشعري الذي كتب له الخلود.

أما المحطة قبل الأخيرة فهي محطة النساء، فقد كان ناجي محبًا للجمال، رقيق القلب أمام كل فاتنة، بل كان مغرمًا بالنساء، ولعل هذا كان سببًا في ادعاء بعض الفنانات آنذاك أنه كان أسير غرامهن، وأن الأطلال كتبها لهذه أو تلك. 

والواقع أن هذه المحطة هي التي فجرت طاقة الشعر العاطفي بداخل ناجي، الذي أبرز معاناة الشاعر وخيبته في تجاربه معهن، كما أبرز طاقاته الفذة على التعبير الدقيق عن حال المحب الملتاع، المكتوى بنار الهوى، القائم يبكي على أطلاله.

أما المحطة الأخيرة فهي موقف الضباط الأحرار منه، حيث صدر أمرًا عرف وقتها "بقوائم التطهير"، أي تطهير مؤسسات الدولة من أذناب الملكية، فجاء اسمه-خطأ-ضمن الكشف مع عدد من الشخصيات الإذاعية البارزة. وهذا القرار الصادر في 1953م كان القشة التي قسمت ظهر ناجي، وتسببت في وهنه بل وهزيمته أمام المرض، حين توفي في ذات العام فجأة وهو يجري الكشف في عيادته بشارع الفرات بشبرا على أحد مرضاه، عن عمر يناهز الخامسة والخمسين، وهو بريء مما نسب إليه، وتشهد على ذلك قصائده الوطنية الخالصة من أجل مصر.