الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

طارق إمام المرشح لجائزة البوكر: «ماكيت القاهرة» استغرقت عشر سنوات من الكتابة.. والفلسفة شكلتني أدبيًا.. الجملة المفتاحية من أصعب رهانات العمل الروائي (حوار)

الكاتب والروائي طارق
الكاتب والروائي طارق إمام

الرواية الوعاء الفني الأقرب لاستيعاب الفلسفة المجردة

لكل جيل بصمته.. فالعالم لن يظل فارغاً من صانعيه

مشكلة النقد العربي أنه في أغلبه نقد غير مبدع

أعمل على رواية موضوعها الشاعر السكندري الإيطالي جوزيب أونجاريتي

لعبت نشأته الأدبية دوراً محورياً، في إبداعه، ومنحته منصة الانطلاق الصلبة ليصبح أحد أهم كتاب جيله، فأخلص للكتابة، وواصل الإبداع ليصدر عملًا أدبيًا كل عام أو أكثر قليلًا، إنه الكاتب والروائي طارق إمام، الذي وصلت روايته «ماكيت القاهرة»، إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر».

شكلت الفلسفة الوعي الأدبي لـ « طارق إمام»،  معتبرًا أن العمل الروائي، عمل تخييلي يمارس دوراً فلسفياً كأحد أدواره الأصيلة، ربما لأنه أحب نماذج روائية تقدم رؤية فلسفية للعالم، من نجيب محفوظ لألبير كامو، اعتبارًا من أن الرواية في تصوره الوعاء الفني الأقرب لاستيعاب الفلسفة المجردة وتشخيصها، ومنحها القدرة على التجسد في واقع ملموس. 

طارق إمام، يقول في حوارع لموقع «صدى البلد»: «"ماكيت القاهرة" قطعت مساحة زمنية واسعة منذ روادتني فكرتها لأول مرة في أعقاب قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011 وحتى انتهيت من مسودتها الأخيرة مع الأيام الأخيرة من سنة 2020، نحو عشر سنوات من الكتابة والتوقف لإعادة النظر والتأمل، من الأمل واليأس»، وإلى نص الحوار: 

 

 

في البداية ماذا يمثل لك وصولك إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية؟

_ يمثل خطوة جديدة  في سبيل وصول نصي لرقعة أكبر من القراء والمهتمين، فضلاً عن أن البوكر، بوصفها أهم جائزة أدبية عربية، تضع العمل المرشح للحصول على الجائزة في بؤرة عميقة من الضوء النقدي والإعلامي.

حدثنا عن كواليس كتابتك لرواية «ماكيت القاهرة»؟ وكم من الوقت استغرقت في كتابتها؟

_ "ماكيت القاهرة" قطعت مساحة زمنية واسعة منذ روادتني فكرتها لأول مرة في أعقاب قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011 وحتى انتهيت من مسودتها الأخيرة مع الأيام الأخيرة من سنة 2020. نحو عشر سنوات من الكتابة والتوقف لإعادة النظر والتأمل، من الأمل واليأس. 

كانت الحكاية في ذهني، تتطور، أكتب وأمحو، لأزيل مرةً بعد أخرى إخفاقي في القبض على "النغمة" النهائية التي أريدها للحكاية. لا تتحقق الرواية أبدًا خارج الحرفة، لكنها لا تتحقق أيضًا بغياب إلهامٍ خاصٍ جدًّا، إلهام يختلف عن إلهام الشعر، إلهام الانفعال، إلهام اللحظة، إلهام البريق المتقطع، ذلك أن الإلهام الروائي تجري تنشئته حتى يصبح بمقدورك الاستعانة به وقت الحاجة، وذلك ما يجعله في تقديري ابنًا للاتصال وليس الانقطاع. هذا عنصرٌ ظللتُ أبحث عنه لخلق الإيقاع النموذجي لهذه الرواية، لأترجمه من حس داخلي لموجود متجسد عبر اللغة، وفور أن شعرت بحضوره، عرفت أن "ماكيت القاهرة" ستصبح، أخيرًا، كتابي الجديد.

تبدو رواية «ماكيت القاهرة» بمثابة رواية الأزمنة المتداخلة وقراءة لمستقبل القاهرة في 2045؟

_ هذا صحيح، الرواية تتحرك بين أربعة أزمنة: 2011، 2020، 2045، وزمن مستقبلي رابع غير محدد. التجول بين الأزمنة لقراءة مكان واحد بشكل "رباعي الأبعاد" كان جزءاً من مغامرتي وطموحي في كتابة "ماكيت القاهرة". كنت أريد أن أكتب رواية "مجسمة" بالمعنى الحرفي، تقرأها كأنك تتجول في مدينةٍ افتراضية لكنها توهم طوال الوقت بأنها مدينة واقعية. الأزمنة في الرواية جميعها دالة ومهمة في سياق القاهرة، من عام الثورة المصرية وما أحدثته من تغيير مهول على مستوى الأشخاص وعلى مستوى هوية المدينة التي هي في النهاية تمثيل لمصر، وعلى مستوى النظر لفكرة المقاومة والمشاركة السياسية، وهي الأفكار التي ظل جيلي بعيداً عنها، حيث أننا، وبخلاف الأجيال الأسبق من المثقفين، لم نمارس العمل السياسي إلى جوار العمل الفني وأغلبنا لم يكن عضواً لحزب، خاصةً وأننا جئنا في لحظة كانت الحياة السياسية فيها قد فُرغت تماماً، وكذلك هناك سؤال علاقة ثورة يناير بالفن نفسه، بدوره وفاعليته، وبتصدر فنون بعينها للصدارة مثل الجرافيتي. هناك عام 2020، عام وباء كورونا، الذي يمكن ترجمته بوضوح لسؤال عزلة الفرد وخوفه من مصير مجهول وطوفاني، وهو أيضاً عام شهد قطع خطوات بعيدة في تجسيد ملامح "العاصمة الجديدة" كواقع ملموس بعد أن ظلت طويلاً محض فكرة هلامية على الورق. 

وهنا يجئ سؤال عن مصير القاهرة كمدينة مهولة تختصر بلداً كاملاً وربما تختصر الوجود نفسه لدى قاطنيها، وهي تتراجع خطوة للخلف لتصبح محض ظل لمدينة شابة ستحصل على مكانها. هناك المستقبل، وأسئلته، كامتداد للماضي والحاضر. التجول بين الأزمنة هو صورة للتجول في طبقات مدينةٍ لا تكف عن التساؤل حول عن هويتها، وفي القلب منها أفراد يعملون بالفن تحديداً وهم يتساءلون في كل لحظة عن دورهم ومغزى وجودهم ومدى قدرتهم على الفعل والتغيير في مدينةٍ لا تكف عن مطاردتهم وإدانتهم. لذلك فماكيت القاهرة هي في جوهرها أيضاً رواية عن الفن وقد أصبح موضوعاً للفن.

أن أتحرك بين أربعة أزمنة، أشعرني ذلك برعب التأريخ والعرافة معًا، ولستُ مؤرخًا ولا روائيًا، ففي الاثنتين سلطةٌ يقينية، وبين يقين "هذا ما حدث" ويقين "هذا ما سيحدث"، كنت أريد تقديم التاريخ والقادم كاقتراحين. نحن نتخيل بداهة أن النبوءات وقفٌ على ما لم يقع بعد، فيما اعتقدتُ دائمًا أن أحد الأغراض التي تنهض من أجلها الحكايات، إعادة تعريف الماضي، بوصفه، كالمستقبل بالضبط، زمنًا يعوزه التعريف. ربما لذلك صدقتُ دائمًا أن في الفن، الماضي هو النبوءة.

كان علي ألا أنسى ارتباك الحاضر، الذي، للمفارقة، يُعمق وهم أننا نستطيع الجزم بكل ما لا نعرفه، فيما نواجه الضياع، الضياع الحقيقي، حين نكتشف عجزنا عن تعريف اللحظة التي ظننا، بداهةً، أنها أكثر ما التصقنا به. ربما جاء هذا كمأزقٍ آخر، حاربتُ كثيرًا كي أمنحه، بقوة التخييل، حكاية تُعلي من شأن حيرتها، وأتمنى أن أكون قد نجحت.

في تصريحات سابقة لك قلت: «كنت أقول لنفسي إن هذه الرواية لن تكتب أبدا» ما السبب في ذلك؟

_ليس أصعب من القبض على زمنٍ سائل، بغية تحويله إلى زمنٍ روائي تام، يضطرد نصيًّا بعد زواله المفترض في الخارج، فيما لم يتجمد بعد في الواقع، حتى لو انتمى إجرائيًّا للماضي، لم يصبح فواتًا، لم يقطن خانته. ربما كان هذا أحد أسباب عجزي الذي طال عن إتمام "ماكيت القاهرة"، العنوان الذي صحبني لسنوات، في انتظار الحصول على ترتيبه في قائمة كُتبي، متراجعًا في كل مرة كي يفسح لعنوانٍ آخر، بكرم صاحب بيتٍ يترك سريره لضيف.

 "ثورة يناير": يكفي أن أستدعي هاتين الكلمتين، ليتضح شيءٌ مما أقصده باللحظة السائلة، المربكة، التي لم تدخل بعد -على الأقل بالنسبة لي، ولجيلي- خانة التمام، قدرَ ما تشحب يوميًّا في واقعٍ يزيحها، وبقسوةٍ تجاوزت حتى الولع بالإدانة إلى الولع بالمحو. ربما من هُنا ظلت "ماكيت القاهرة" لسنوات نصًّا مفتوحًا، كلما تخيلتُ أنني عثرت على لحظة نهايته فاجأني الواقع بنهاياتٍ جديدة، يومًا بيوم، مع مراجعاتٍ عنيفة من جانبي للّحظة التاريخية، تهب بها التبعات. الكتابة فرصةٌ وحيدةٌ، ربما، لإفلات السؤال من حدي الاستقطاب، لكن حتى علامة الاستفهام ما تلبث أن تغدو علامات، وما ظننته سؤالًا، لا يلبث أن يصبح تكئةً لأسئلةٍ مولدة، جميعها تجد لنفسها مكانًا في حكايةٍ إطارية ترفض أن تنتهي، في الواقع وفي النص معًا.

إلى أى مدى شكَّلت الفلسفة وعيك الأدبي؟

_  إلى أبعد مدى يمكنك تخيله. تصوري للعمل الروائي أنه عمل تخييلي يمارس دوراً فلسفياً كأحد أدواره الأصيلة. ربما لأنني أحببت نماذج روائية تقدم رؤية فلسفية للعالم، من نجيب محفوظ لألبير كامو. الرواية هي في تصوري الوعاء الفني الأقرب لاستيعاب الفلسفة المجردة وتشخيصها، منحها قدرة على التجسد في واقع ملموس. لا أستطيع فهم الرواية بوصفها "حكاية والسلام"، لأن أي شخص في الكون هو بطل حكاية ما تمثلها حياته، لكن تحويل حكاية دون غيرها لنص أدبي لابد أن ينطوي على عناصر تحول هذه الحكاية من قصة شخصٍ دون غيره لقصة يمكن لجميع قارئيها أن يصيروا أبطالها. في "ماكيت القاهرة" ثمة حضور واضح للأسئلة الفلسفية: علاقة الفكر بالمادة، التصور بالموجود، الأصلي بالزائف، الميتافيزيقي بالحسي، علاقة الواقعي بالمتخيل، وغيرها. وهي ليست أسئلة فوقية تهبط على الشخصيات بل تنبع من داخلهم، من أفكارهم وتساؤلاتهم ووظائفهم الروائية نفسها.

عندما تكتب رواية أو قصة.. ماذا عن الجملة المفتاحية، كيف تعثر عليها؟

_ الجملة المفتاحية من أصعب رهانات العمل الروائي، فبالعثور عليها تشعر أنك فتحت باب مكانٍ مغلق بالمفتاح الصحيح. العثور على المدخل المناسب يحدد بالنسبة لي، وإلى درجةٍ كبيرة، إيقاع الرواية نفسه، لغوياً وإيقاعياً. أميل للبداية الخاطفة والتي تُبقي المُتلقي، وتبقيني من قبله، مشدوداً لأرى ماذا سيحدث.

هل ترى أن جيل الشباب الحالى استطاع نحت بصمته التاريخيّة كجيل 19 مثلا أم لا يزال فى حاجة إلى الوقت؟

_ لا أميل لمقارنة جيل بآخر، أو ربما لا أجيد عقد هذا النوع من المقارنات. التاريخ يُصنع يومياً دون أن نشعر، وكثيراً ما لا يدرك البطل أنه بطل، أو يموت دون أن يعرف حقاً أي دور لعبه، ثم يعاد اكتشافه. الأكيد أن لكل جيل بصمته، فالعالم لن يظل فارغاً من صانعيه، لن يظل بلا حرب أو ثورة، إنها حتمية التاريخ: أن يكون له أبطاله ولو رغم أنفهم.

كيف ترى النقد الأدبي في الوقت الحالي.. وهل توجد أزمة نقدية في الوطن العربي؟

_ مشكلة النقد ليست في عجزه عن متابعة الأدب، فالنقاد كثيرون كالمبدعين بالضبط. مشكلة النقد العربي أنه في أغلبه نقد غير مبدع، مدرسي ومعلب، تابع وناقل وأصولي، ولذلك هو غير قادر على مواكبة الجنون الإبداعي، لأن عقلية الحفظ والاستظهار تختلف كلياً عن عقلية التمرد . الناقد يحب التكريس للنموذج، والعثور على مرجعية موجودة سلفاً لفك شفرات نص ما بحيث يقيس الحالي على الماضي، وإن لم يحدث ذلك، يطلق اتهامه للروائي.. بينما أي فن عظيم أو مغاير أو مجدد هو تحطيم لنموذج ما وخلق قانون جديد. أعتقد أن الناقد ينبغي أن يكون في المقام الأول مبدعاً، وذا رؤية شمولية للفن وللعالم.

إلى أى مدى لعبت نشأتك في وسط عائلي مثقف دوراً في دخولك مجال الأدب؟

_ بالتأكيد لعبت دوراً محورياً، ومنحتني منصة الانطلاق الصلبة لأصير كاتباً.

تُرجمت رواياتك.. ما هو موقفك من الترجمة الأدبية وموقعك فيها؟

_ الترجمة هي محاولة لجسر هوة "وجودية" بين ألسنة مختلفة. أرحب بالترجمة طالما تحترم رؤيتي وقناعاتي، لكني لا أكتب من أجلها. أنا في النهاية كاتب عربي وهي اللغة التي أعمل وفق جمالياتها وأحاول تقديم خصوصيتي فيها. نعم أخاطب الإنسانية، أو أدعي ذلك، لكن لا سبيل أمامي سوى أن أتحدث من داخل المعجم الوحيد الذي أجيده. وكل ما يلي ذلك لا أفكر كثيراً في تحققه من عدمه.

هل ترى أن هناك فجوة بين شباب الكتاب وكبارهم.. وكيف يتم معالجاتها؟

_ هناك تراوحات في النظر للحياة والفن وهذا طبيعي. لكن، للأمانة، نهر الروائيين كان دائماً، وبخلاف الشعراء المتكئين على القطيعة، أكثر تهادياً وتواصلاً. ربما لأن الرواية نفسها فن وافد وحديث نسبياً فأتت ضمن ما أتت بقيم التسامح، بينما الشعر لصيق بعصبيةالثقافة العربية العميقة وبفخاخ العراقة.

ما تأثير الصحافة على الأديب فيك؟ وهل تراها فعلًا المهنة الأنسب للكاتب؟

أعتقد أن الصحافة هي المهنة الأنسب للكاتب، شرط ألا يكون صحفياً طموحاً

ما مشروعك الأدبي القادم؟

_ أعمل على رواية موضوعها الشاعر السكندري الإيطالي جوزيب أونجاريتي، وهو مشروع أعمل عليه منذ سنوات بشكلٍ متقطع، وأتمنى أن أتمكن من إتمامه.