الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ونس روحي

الصمت الذي يحل بعد جلبة عارمة، كمثل انقطاع التيار الكهربائي فجأة عن مدينه ملاهٍ تغط بالبهجة والسرور، فتتجمد السعادة على الوجوه، وتتحول النظرات إلى ذهول ودهشة، يتوقف المشهد بأكمله فلا تعود قادرا على العودة إلى مثل البهجة السابقة أو استيعاب ما ألمّ بك من صمت.


الحزن الشديد بعد سعادة بالغة، اليأس القاتم بعد أمل مبهج، لحظات تتوقف فيها الحياة وتنعدم فيها الرغبات وتظن أنها النهاية.
يحدث ذلك عندما يذهب جزء من روحك، يذهب بعيدا فلا تجد له عودة ولا أمل في اقتراب، جزء كان يوما كل شيء،
كان يشاطرك حياتك، آمالك، طموحاتك، والأهم كان يحمل عنك حزنك، حتى إذا هرعت إليه لتصب همومك بين يديه، يكون الرد بابتسامة مبهجة وكلمات تحفل بالأمل، فينزعك من حزنك ليضعك أمام بهجة الحياة وسعادتها.


ثم تجيء اللحظة التي لا تدري بعدها كيف تكمل المشوار، تحاول العودة إلى روتين الحياة، ذلك الروتين الممل، لعلك إذا انخرطت فيه خرجت من لحظات اللاوعي التي تحياها، فإذا بذلك الروتين بكل تفاصيله غير قادر على أن يعيد إليك بعض هدوئك، فتركن للدوامة، لمسؤولياتك لتجدها أيضا قد اختلفت، بل إنها تذكرك على الدوام بذلك الجزء الذي ذهب منك، فقد كان يشاطرك إياها لحظة بلحظة، بل ويعينك على تحملها، تتلفت حولك، أين من كنت تهرع إليه، فيأخذك بين يديه بكل حب وحنان ليفرض عليك بهجة لم تكن تعرفها.


تظن أنك تعتاد الغياب، لكنه غياب ليس كالغياب، غياب الروح ذلك أقسى غياب. فكيف تعتاده وكل ما حولك يذكرك به،  ويقض ذكرياتك، فتلك وردة وضعتها أنامله في كوب جف ماؤه، فقد كان يعشق الورود ويهديني إياها كثيرا،  وتلك كلمات حب خطها فوق مرآتي يوما، وذلك إهداء كتبه لي بكل حميمية على أحد كتبه، وتلك ولاعة شخصيه حفرت فوقها بصمات أصابعه، حملت عنه يوما لحظات الغضب والعصبية التي ما كان يلبث أن ينفثها مع دخان سجائره بعيدا عن روحه الهادئة.
ركن القهوة التي كان يعشقها، هنا تبادلنا الضحكات وهنا اجتررنا الذكريات، وهنا وهنا وهنا، فأين الفرار.


نعم، إنه الحلم الذي طالما راودك وحققته لك الدنيا يوما، ثم فجأة قبل أن تكتمل فرحتك به تسلبك إياه، وتصرخ في وجهك: هذا هو نصيبك منه فلا تطمع. 
قلت له ذات مساء: أنت تشبهه، فإن أغلب صفاتك تشبه الرسول، فاستنكر قولي، فأجبته: كنت دائما أدعو الله أن يرزقني بمن يحبني ويعاملني كما يحب الرسول السيدة عائشة، فما أظنك تعاملني بأقل ما كان يعامل الرسول زوجته وحبيبته، فتغالبه دموعه ويحتضنني قائلا: أنا لست نبيا، أنا بشر. 


كان يسمع أكثر  مما يتكلم، يحتوي ولا يطلب الاحتواء، ذات فضفضة حكى لي عن ذكرياته الأليمة ثم نظر إلي بدهشة قائلا: كيف اطمأننت إليك لتك الدرجة، كيف قصصت عليك ما لم أقصصه على أحد من قبل مهما كان مدى قربه؟ قلت: لأنني الأقرب إليك من أي أحد، فقال بحنان: نعم أنت امرأة حياتي، أنت ونس روحي.

قالها يوما: لا أرى أنني أحببت شيئا في الحياة مثلما أحببت الكتابة إلا بعدما رأيتك، فوجدتني أحبك أكثر مما أحب الكتابة، كنت أهجر الدنيا وألوذ بالقلم، فصرت أهجر كل شيء لألوذ بك. 
عشق الكتابة وعشقته، كان يقول دوما إنه في بداية طريق لا نهاية له. حمل الكثير من الأفكار والطموحات حتى في أقسى لحظات مرضه ومعاناته كان يملك مشروعا إبداعيا يأمل أن يكمله، مؤمنا بأن الله سيشفيه ليكمل مشوارا أحبه.


الهدوء كان سمتا روحانيا يغلف روحه، والتوكل على الله كانت عبارة منتظمة يرددها لسانه، فبدلا من أن أدعوه أنا للصبر كان هو من يدعونني إليه.
  عاش هادئا بعيدا عن الأضواء يكتب ويكتب، يرى أن الله قد وهبه الحياة فقط ليكتب.
لم ينشغل بصراعات الدنيا، بل كان دائما ما يتجنب ما يثير اللغط، فلم ينتمِ لشلة أدبية أبدأ، فهو يرى أن المبدع الحق عليه أن يبدع فقط ولا يشغله شاغل سوى الإبداع.


رفض محاولات اتحاد الكتاب لتبني علاجه في بدء الأزمة، وأصر على أن يجري العملية على حسابه الخاص عندما تعثرت خطوات التأمين، ليكمل رحلة العلاج بعد ذلك على حساب التأمين الصحي، قائلا: أنا لست بحاجة الى المساعدة، حتى أنه رفض محاولاتي توسيط أحد في إنهاء إجراءات العلاج، وأصر على أن يكمل مشوار العفاف حتى آخر لحظة.


هو المبدع الإنسان، والزوج، والونس الحقيقي الذي فارقني جسدا، ولكنه أبدا لم يفارقني روحا، فروحه قد حلت بداخلي، وستظل هي الونس حتى آخر لحظة في حياتي.
محمد عبد المنعم زهران، لروحك الرحمة ولسيرتك العطرة السلام.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط