الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

كان يا ما كان

نهال علام
نهال علام

كنت تلك الصغيرة ذات الجديلة، أتشبث دائماً وأبداً بأن أكون الأميرة، كنت أشعر إني متوجة على قلب أبي وأمي.. نعم كنت أنا تلك المدللة، طلباتي مُجابة وأمنياتي مستجابة بلا آي غضاضة، ولم أكن طفلة وحيدة بل أنا الوسطى التى يُحكى عن ترتيبها ظلماً مظلوميات لا صلة لها بالحقيقة فلقد كنت الأثيرة، وذلك لعوامل كثيرة أولها إنني بطبعي كنت شقية ولكن وديعة، وثانيها أن أخى يكبرني بسنوات عديدة، لذا كنت في مراتب المحظوظات لسنوات طويلة حتى بعد مولد شقيقتي الصغيرة لم تتأثر مكانتي فعندها كنت أنا العاقلة الكبيرة.

 

أتذكر تلك السنوات البعيدة، وأشعر بالحنين لتلك اللحظات التى تبدو قريبة، أراني بوضوح وأنا ألعب دور المذيعة أجمع رفقاتي وأنظمهم فرقاً متنافسة لنلعب بدون كلام وبنك المعلومات، ثم ننتقل للعب ببنك الحظ والسلم والثعبان والكوتشينة، وتشتد المنافسة بأتوبيس كومبليه واستخراج الفروق من الصور المتشابهة، وعندما نرى السماء وقد توردت بحمرة الغروب نشد أزرنا ونبدأ السباق بالدراجات وبالرغم أنني لم أجيد قيادة الدراجة ذات الإطار المزدوج وكانت دراجتي الوردية من ذوات الأربع إلا أنني ما شعرت يوماً بالنقص بل كنت أشعر بالتميز لأننى الوحيدة وسط رفقائي التى تتزين دراجتها بفيونكة حريرية فكم أنا استثنائية!

 

وبعد أن أخسر سباق العَجل ياللغرابة كنت أشعر بالوَجل.. الذي لا أعرف مصدره لتلك اللحظة، اللهم إلا اقتناعي بأنني من المتميزين فأنا أول الفائزين في بنك المعلومات وايجاد التشابهات وأعرف أسرار تمكنني من الفوز الدائم في لعبة الإكس أو، واعتمد على ذاكرتي التي ما خذلتني قبل أن تذهب مع الريح في حفظ عواصم الدول التي كنت احرص على استخراجها من جريدة الأهرام في كراستي ذات العمود السلكي المتميزة، لذا كانت لدى موسوعتى الخاصة التى أهزم بها أصدقائي بكل بساطة في ألعاب المعلومات العامة، فلا ضرر من هزيمتى في سباق الدراجات ولو على مرأى العامة!

 

وعندما يتربع الليل فوق رؤوسنا، ونبقى نحن والقمر الذى يراقب تحركاتنا كان ذلك موعد قطف الفل والياسمين من حديقة بنايتنا العامرة بأشجار الڤيكس والتى باغتها الفُل فملأ الأرض عِطراً، كنا نصنع أطواق الفُل نرتديها طوال فترة لهونا ونضعها على مقبض الباب قبل دخول منازلنا، لتكون العلامة المميزة أن هنا يقطن مشاغب، في محاولة للإعلان عن هويتنا تحت اليافطة النحاسية التى يحُفر عليها أسماء آبائنا.

 

فلاش وميكي وكابتن ماجد وعم دهب، كانوا اللبنة الأولى في البصمة الثقافية بشخصياتنا، على سبيل التقليد لما يمتلكه الكبار من المكتبة العامرة بأمهات الكُتب! 
لذا فنحن سنسعى لأن نحظى بأحفاد تلك الكُتب، مسيرة استكملناها فيما بعد برجل المستحيل والدكتور رفعت إسماعيل، وروايات عبير!

لازلت أتذكر فرحتى عند عودتي يوم الخميس من المدرسة فكانت تنتظرني مفاجئتين الأولى أنه من المسموح أن أشاهد التلفزيون في غير المواعيد المقررة، وذلك يعنى أنني سأشاهد فيلم القناة الثانية بعد موجز أخبار الساعة الثالثة والذي عادة ماكان أحد أفلام إسماعيل ياسين أو نجيب الريحاني تلك الدرر الخالدة، أما الحدث العظيم الآخر أن وجبة الغذاء ستكون من نوعية الوجبات السريعة والذي لا يخضع لمعايير أمى الصحية والتى كانت تمنع مطاعم الوجبات الأميركية الحديثة إلا مرة في الشهر لتحافظ على لياقتنا وصحتنا بحالة سليمة، فالخميس يوم اللخبطة الذي يتربع على عرشه المكرونة والبطاطس المحمرة والأسكالوب بانيه وتتنحى السلطة والسوتيه ليحل محلها الكريم بورليه.

 

ويمتد العيد ليوم الجمعة الذي أغفو فيه للثامنة حتى أكون في العاشرة قد تناولت وجبة الإفطار المكونة من الطعمية الساخنة بعيداً عن رقائق الذرة الباردة التى نتناولها قبل الذهاب للمدرسة، ثم أخذ مقعدي أمام سينما الأطفال وماما عفاف وأحاول أن أحصل على الإذن أن أشاهد مسلسل سر الأرض بعد صلاة الظهر وعالم الحيوانات بصوت الرائع محمود سلطان على أن استأنف المذاكرة بكل ما أوتيت من قوة لأعوض ذلك الوقت الذي أهدرته بحسب وصف أمي في "المسخرة" أمام التلفزيون الذي أكل رأسي وعيناى!
أرى الإبتسامة على وجهك يا أمي وإنتي تقرأين تلك السطور التى تجسد أعظم مخاوفك في ذلك الوقت قبل أن نخوض معاً معركة هذا الزمان ونحن نجاهد مع أبنائه، أي أحفادك!

كان للمصيف طقوسه العظيمة من أحدث الإصدارات في سوق الشرائط وعلى رأسها عمرو دياب وما يجود به الزمان من حكيم أو إيهاب توفيق وربما ذلك الميكس الذي ابتدعه حميد الشاعري، ويصاحبهم الكاسيت ذو البابين ومضارب الراكيت وعلب الكور الكثيرة، وصنادل البحر الملونة الشفافة وطقم الجردل والجاروف اللازم لبناء قصور الرمال بكل ما نملك من عزيمة ليبتلعها الموج في لحظات ولكن دون أن نشعر بالهزيمة. 

أما الأعياد فتلك قصة أخرى من الممكن أن نحكى عنها في روايات تتناول الطقوس والعادات والزيارات والعيديات وأصول الرد على المكالمات، كما كان لاستقبال شهر رمضان بهجة ولانتظار شم النسيم سعادة، وليلة تنزيل الملابس الصيفية قبل أن تعرف بيوتنا غرف الملابس المنفصلة والدواليب المتعددة فرحة غريبة، سنعرف كم كبرنا عن السنوات السابقة وتلك فرصة لو تعلمون عظيمة لاستغلال الأمر وشراء الكثير من الملابس الرائجة الجديدة!

عيب وأختشي، أختفى من قدامي، وطي صوتك، أظبطي طريقة جلوسك، استقيمي ظهرك وأفردي وشك، قولي حضرتك، وغيره من المفردات التى لازمتني كظلي ولازالت مرتبطة بأنفاس أمي أدامها الله تاجاً على رأسي، ويعتريني نوبة ضحك عندما أتذكر الضبطية التى كانت تقوم بها أثناء تناولنا الطعام لترى إذا كنت أنا أو أحد أخواتى قد لوث يديه بالطعام ولم يلتزم بقواعد المائدة ياعاقبته وسواد لياليه!

تلك ذكرياتي وبعض لمحات من أيامي التى تتشابه مع مُعظَم أبناء جيلي وتتقاطع مع الغالبية العظمى لشركاء جيل الثمانينات والتسعينات وحتى ما سبقها من السبعينيات وحدتنا التجربة فلم يُفرق بيننا مستوى اجتماعى ولا تعليمي، فالبيوت كانت متشابهة والعادات متقاربة والمدارس غير متفاوتة.

وكل ما سبق من سطور إنما هو مقدمة لطرح سؤال إجابته حائرة، ماذا سيكتب جيل ما بعد الألفينات في مذكراتهم وما يثير  حنينهم ويستفز ذكرياتهم!
وبلاشك فأبناء النصف الأول من العقد الأول قد يكونوا أكثر زخماً بما لديهم من حكايات لها ارتباط بزمن فات، ولكن جيل الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعية التى تسببت في قطع الروابط الأسرية، ماهي ذكرياتهم وماذا سيعلق في وجدانهم!

ميراث الحنين وحقيبة الذكريات من أكبر المؤثرات على الهوية الشخصية للنفس السوية، فهل ينتبه علماء النفس والسلوك لذلك! لذا يجب الاهتمام بالدراسات التى تتناول الأسرة والمجتمع وخاصة بعد التغيير المجتمعي الذي أطل بجناحيه على المجتمعات بخيره وشره، فقطعاً هذا الجيل محظوظ بالكثير من المعارف والمعلومات في عصر التكنولوجيا الرقمية، ولكن الوجه الآخر شديد الخطورة إذا لم يتم التعامل معه بكل الحذر ليتجنب ابناء الرقمنة المناطق المحظورة.

لم تعُد تربية الأبناء سهلة وعلى الآباء أعباء ثقيلة في ظل مستلزمات الحياة اللانهائية الجديدة، فذلك ليس جيل القطار الكهربائي وعدة الدكتور والمكعبات الملونة، ذلك جيل لم يسعى ليستكمل ألبوم البسكويت الشهير وتجميع أغطية المياه الغازية واستبدال عصا الأيس كريم الشهية!
تلك العطايا التى كانت ترضينا حتى يبلغ الحمد منتهاه، هذا جيل الجزرة الغير مدركة والملل السريع من كل النعم التى تحيط بهم ولكنها بسرعة تصبح مُتروكة بحثاً عن غيرها غي عصر العولمة المفتوحة.

ولا يمكن مواجهة هذا السراب إلا بتغيير الخطاب وتطوير الجواب واكتساب الأهالي المرونة اللازمة للقدرة على التعامل مع مشاكل الجيل المحمومة، وليس فقط الخطاب الديني الذي يجب أن يواكب العصر ولكن أيضاً الرسالات الدنيوية يجب أن تجارى ما يحيط بها، لذا فتنظيم الأسرة ليس برفاهية ولا تضحية من أجل التنمية بل هي حق مستحق للآباء قبل الأبناء ولمصلحة الفرد قبل المنفعة التى ستعود على المجتمع.

أشعر بالحنين لما ترعرت عليه وبداخلي حزن أنه أصبح غير قابل للتطبيق وتلك حقيقة يجب مواجهتها، وإذا كانت القيم على مرّ الدهر ثابتة، فيجب التعامل بعقل مفتوح أن الوسيلة هي التى يجب أن تتغير، فكما مرّت الرسائل بمراحل متعاقبة من الحمام الزاجل ووصولاً للتطبيقات الحديثة، فذلك واقع التواصل بين ماكان من آبائنا وما هو مطلوب مِنا تجاه أبنائنا!

أحمل تراثي بداخلي وأجاهر بصوت مسموع لعلنى أجد من يستمع إليه ويشاركني الشعور بالإعتزاز والتقدير لبقلظ وبوجي وطمطم وبكار وفطوطة وشيريهان وكوكى كاك ونادي السينما وتاكسي الساهرة وغيرهم الكثير، على كل ما بذلوه من جهد لرسم الضحكة على وجوهنا والقيم في عقولنا وذكريات سعيدة في أعمارنا، فالمجد كل المجد لذكراهم العطرة في صحائف الذاكرة لذلك الجيل الذي كان بالفعل يلعب بالبلي الملون ويأكل الموز المجفف وينام في التاسعة شتاءً والعاشرة صيفاً ولم يعرف غير المانجو والقصب عصيراً ونوعين من المقرمشات ولكن كم كان سعيداً، حامداً شاكراً لتلك النعم الجليلة.
فماذا سيحكي أبناء اللانهائية عن تجربتهم المحدودة بالأجهزة التى احتلت عقولهم والألعاب التى غزت وجدانهم والمنتجات التى يصعب حصرها، هل أنتم سعداء أم مبتلون؟ سأنتظر الإجابة ويوماً ما في تلك الحياة أو في حياة أخرى سنشاركهم الوجه الآخر من التجربة وتلك التساؤلات ستجد الاجابات.