الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الفئران صاحبة الفضل في تشييده.. حكاية قصر السكاكيني وعربات القطط

قصر السكاكيني
قصر السكاكيني

امتلأت الخنادق أثناء حفر قناة السويس بالفئران، فتوقفت المعاول وتعطل العمل، إلى أن تجلت فكرة بسيطة - بقدر ذكائها - في رأس «السكاكيني باشا» عندما أخذ عربات مليئة بالقطط وأطلقها على الفئران فقضت عليها، كانت هذه الواقعة سبب سعد ذلك المقاول الذي اشترى الباشوية كأثرياء ذلك العصر، فقد نال إعجاب الخديو الذي جعله يشارك في بناء دار الأوبرا القديمة، وقادت الرجل تطلعاته ليشارك في عصر النهضة المعمارية بمصر، فقرر أن يحول تلك البركة الموجودة بالقرب من جامع الظاهر بيبرس إلى تحفة فنية شارك في إنجازها أعظم الرسامين الإيطاليين آنذاك؛ فكان قصر السكاكيني ثم الحي الذي امتد حوله واكتسب الاسم ذاته فخلد اسم وسيرة صاحبه.

تاريخ أسرة السكاكيني وبداية دخولها مصر

كانت أسرة السكاكيني عريقة بجذورها التي تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي في بلاد الشام، وكانت شهرتها في صناعة السلاح (خصوصا السكاكين) سببًا في اللقب الذي حازته، لكنها اضطرت أن تترك دارها وتهاجر إلى مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر هربًا من اضطهاد الأتراك، وهكذا فر جبرائيل أنطوان إلياس حنا والد حبيب السكاكيني، ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى بزغ نجمه عندما انضم إلى فريق ديليسبس الخاص بحفر قناة السويس وبعد حادثة الفئران أعجب به الخديو إسماعيل، وبدأ يكلفه ببعض الأعمال الإنشائية، فكان له النصيب الأكبر في إنشاء دار الأوبرا القديمة، واستخدم في بنائها جذوع النخل.

 

من بركة مياه إلى تحفه فنية

كان يمكن لاسم السكاكيني باشا أن يظل مغمورًا مع هذا كله، أو تطويه السنوات، إلا أن هذا القصر التحفة الذي بناه وخطط حوله طرقًا وشوارع هي ثمرة حي جديد اكتسب نسبه من السكاكيني باشا فحصل على لقبه، وكان مكان هذا القصر مجرد بركة مياه تعرف باسم (فراج التركماني) تستمد ماءها من الخليج المصري القديم شارع بورسعيد (حاليا) ومن حولها كانت أرض جرداء.
وتشير الوثائق إلى أن حبيب السكاكيني اشترى هذه البركة من مزاد علني في ١٠ يونيو ۱۸۸۸م وهذا يدحض الرواية التي تقول إن السكاكيني حصل على أرض البركة كهدية من الخديو إسماعيل، وقد ردم السكاكيني البركة، وشيد القصر في عام ۱۸۹۷م على مساحة ۲٦٩٨ مترًا، وجاء القصر نموذجا مجسما لفن الركوكو، وشيد على يد معماريين إيطاليين والطريف أن المكتب الإيطالي المشرف على الإنشاء اشترط عدم إقامة أي تعديلات أو إصلاحات بالقصر إلا بمعرفته حتى لا تشوه زخارفه وتماثيله النادرة، ومع الطابع الأوروبي الذي يعتمد على العناصر البشرية والنباتية تستطيع أن تتذوق التراث الإسلامي في وحدات الأرابيسك والخشب المعشق والزجاج الملون، وذلك السلم الحلزوني المأخوذ من المئذنة في المسجد، والذي يصل بك إلى قبة القصر الشبيهة بقباب المساجد والتي تطل منها على القاهرة العامرة.

 


وكأنك في هذا القصر أمام حالة خاصة من التزاوج المعماري بين الشرق والغرب.
وتقول سهير عبد الحميد مؤلفة كتاب قصور مصر، عندما تصل إلى «السكاكيني» تأخذك ملامح القصر منذ الوهلة الأولى: أعمدته الرخامية التي تبدو وكأنها قطفت من بهو روماني، التماثيل المعلقة على الجدران ما زالت بكامل عنفوانها وتألقها، وحدات الأرابيسك في النوافذ، الحرف الأول من اسم حبيب في الإنجليزية وقد نثر على الجدران بشكل جمالي قبة القصر الكبيرة التي يستقر أسفلها القصر كمبني عريض متعدد الارتفاعات الحديقة الواسعة بأشجارها العتيقة.

 

وتضيف: كانت هذه المرة الأولى من بين مرات عدة مررت خلالها بالقصر الذي أراه من الداخل، وكنا نهابه صغارًا ونظنه مسكونا بالجان، وأن تماثيله تحملق فينا كي نبتعد وجدتني أبتسم وأنا أتذكر مدى سذاجة الطفولة، دخلنا القصر أنا ومرافقتي المفتشة الأثرية من بابه الغربي وهو الباب الجانبي الذي كان يستخدمه الخدم والعاملون بالقصر، وكان المصعد الكهربائي في مواجهتنا، وعلى يسارنا السلم المؤدي إلى البدروم، صعدنا السلالم يمينًا إلى داخل القصر لنرى الباب الرئيسي للقصر من الخلف، والمصنوع من الخشب والأرابيسك والزجاج الملون، والذي يؤدي مباشرة إلى حجرة الاحتفالات التي حرص السكاكيني على أن تكون شديدة الاتساع كي تستوعب العشرات من المدعوين، خصوصا أن السكاكيني كان صاحب علاقات متعددة مع رجال الدولة والأجانب بمصر والسقف لذلك به رسومات أوروبية، وأرضيته من الخشب المعشق.

وتأتي حجرة المكتب كتحفة فريدة، فأعلى السقف أشكال من الجص على هيئة ورد وفي المنتصف شعلة فوقها ملكان يحملان عقدًا من الورد يطوقان به تمثالا لرأس صاحب القصر السكاكيني باشا بشاربه المفتول الذي كان علامة الوجاهة في ذلك العصر.
وما زالت غرفة المكتب تحتفظ بمكتبة خشبية ضخمة كانت تحتوي على مجلدات بلغات مختلفة، ونسختين من القرآن والإنجيل، وبجانب حجرة المكتب توجد حجرة السفرة، وفي نهايتها نيش ضخم ومصعد صغير لتوصيل الطعام من البدروم.