وسط ضجيج الحرب والركام والدخان ينسى العالم أن هناك جريمة أكثر صمتاً لكنها أشد فتكًا.
إنها جريمة الخبز حيث لا تُقصف المدن فقط، بل تُحاصر البطون ويُمنع الطعام قبل أن تُمنع الحدود.
منذ سنوات تستخدم إسرائيل سلاحًا خفيًا لكنه بالغ التأثير التجويع الممنهج للشعب الفلسطيني وتحديدًا في قطاع غزة. الأمر لا يقتصر على الحصار الخانق الذي بدأ عام ٢٠٠٧ بل تصاعد ليبلغ ذروته بعد حرب ٢٠٢٣ـ ٢٠٢٤ حين تحوّل تجويع الفلسطينيين من سياسة إلى استراتيجية ومن قرار عسكري إلى منهج حياة وموت.
وتؤكد الأمم المتحدة في أحدث تقاريرها أن أكثر من ٨٥ % من سكان قطاع غزة يواجهون انعدامًا حادًا للأمن الغذائي، ويشير تقرير "هيومن رايتس ووتش" إلى أن إسرائيل تُمارس تجويع المدنيين كـ"أداة من أدوات الحرب" في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
لكن الأخطر من ذلك هو البعد الأيديولوجي الصامت الذي يرافق هذه السياسة. فبعض التيارات الصهيونية ترى في هذا العقاب الجماعي امتدادًا "لاهوتيًا" لمفاهيم توراتية مشوّهة تُبرر الحصار باسم "النقاء" و"الأرض الموعودة". يُستحضر النص وتُسكت الأخلاق.
وسوف أذكر بعض الفقرات التوراتية الدالة علي ذلك، فقد ورد في (سفر التثنية إصحاح ٢٨) صورة مروّعة لما يُسمّى "لعنات العصيان" وفيها: "وتأكل ثمرة بطنك، لحم بنيك وبناتك… في الشدة والضيق الذين يضيّق بهما عدوك".
هذا النص يستخدم لغة عقابية قاسية ويرتبط بعدو يفرض الحصار حتى حدود الكارثة. المفارقة أن هذا النوع من النصوص حين يُقتطع من سياقه يتحول إلى مبرّر ديني للعقاب الجماعي ويُوظف ضمن خطاب سياسي يُشرعن الحرب والحصار.
لكن في المقابل، هناك صوت آخر داخل التوراة – صوت الأنبياء – يفضح هذا الظلم ويصرخ في وجه استغلال السلطة. ففي (سفر إشعياء الإصحاح ٥٨) نجد: "أليس هذا صومًا أختاره حلّ قيود الشر… أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك؟".
إن هذا النص يُعلي من شأن إطعام الجائع ويضعه في جوهر العبادة لا على هامشها ويكشف الفارق الأخلاقي بين الصوم كعبادة روحية والتجويع كأداة سياسية.
من يفتش في تفاصيل هذه الجريمة يدرك أن إسرائيل لا تقتل الفلسطيني بالرصاص فقط، بل تنهكه بالجوع وتُدجّن إرادته بحرمانه من الرغيف وتحاصره من داخل جسده قبل أن تحاصره من خارج وطنه.
إن سياسة "حصار البطون قبل المدن" ليست فقط حربًا على القوت، بل على الكرامة والوجود ، وهي جريمة يجب ألا تسقط بالتقادم ولا تُنسى خلف الأرقام.
ففي غزة الخبز محاصر والجوع متعمد والسكوت خيانة.