الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

العشق المختوم

نهال علام
نهال علام

انفرط عِقد العام كعادة أصيلة لكل الأعوام، وهاهي الأيام تتسربل من بين أيدينا وكأننا اليوم ما عِشنا يوماً كل ما كان، اعتدنا أن نستقبل العام الجديد بلائحة طويلة من الأمنيات، وتلك عادة محلُها حقيبة الذكريات، عندما كان الغد مأمول والهدف مضمون والحلم مفعول به يؤتمر فيكون.

أمنياتنا كانت كبيرة بعرض السماء البعيدة، ولكنها قريبة، لا يُعيبها أنها كثيرة فهي على تعددها بسيطة، كالانتقال من صف دراسي لآخر أو الحصول على بعض الملابس الجديدة، وقد يبلغ الحلم مطمعه فيذهب لارتياد أماكن وبلاد بهيجة تجسدت لنا كجنية على الخريطة.

اتذكر تلك الأمنيات، واشتاق لبراءة تلك اللحظات، ولسلاسة تحقيق كل الغايات، دون عريضة من التعقيدات، ولا أدري أتلك نعمة أم نقمة، فهي من نزعت عني لجام الأحلام، وجعلت عقيدتي أن الإيمان بالحلم كفيل أن يجعلني ألمس النجوم وأقُبِل القمر واحتضن السماء فتسقط المطر، فيغدو على الأرض ذهباً يخرج من بين شقوق الحجر ورداً، وليس زبداً.

ولكن مع مرور الأيام وتكالب الاختبارات، وشقاء النفس في طرقات الاختيارات، واكتساب ما أسموه الخبرات، والنضج الذي فُرض على أرواحنا عنوة وأخبرونا أنه احدى المكتسبات، تضائلت قائمة الامنيات واختزلت صفحات الرغبات، لمطالب أحادية تعيننا على اجتياز ما هو آت.

اختبرت شبح الموت وأنا صغيرة عندما توفى جدي لأمي وتبعه جدي لأبي بعد أربعة أيام في واقعة غريبة لم يستوعبها عقل طفلة حالمة مدللة وسعيدة، كنت أعرف أن هناك ما يسمى هادم الملذات ولكن اعتقدت أنه له علامات وأولها أن يمرض الناس ويبدو عليهم علامات الرحيل التي تخيلتها بصور عديدة، ولكن كلمة الله كانت أن يسترد وديعتيه دون سابق إنذار، وفي أوج القوة وموفور الصحة لدرجة إنني تخيلت أن الخبر على سبيل الهزار.

ولكنها كانت الحقيقة وعلى مدار ٤٥ يوم لم يكن في جدول الأجازة الصيفية إلا إقامة ليالي العزاء بطريقة تبادلية، وتلك كانت نقطة البداية في قصة بطلها الموت في حياتي، حكاية قوامها التضاد لبطل حل علي في صيف ما، فشغلني كنهه لزمن ما، حتى اكتشفت بعض أمره، فإذا بي أعشقه ولكن في ذات الشعور ارهبه وابغضه.

ولا تتسرع عزيزي القارئ فلست موتورة، أو امرأة توالت عليها الأزمات فأصبحت أفكارها مبتورة، سأتلو عليك مبرراتي وربما ترجح كفة حكاياتي.

ولأبدأ بما يتسم بالمنطق ربما يجذب خيالك ما أنا على وشك به أن أنطق، بالفعل الموت مقبض وبغيض فنحن نتوفى مرة ولكن نموت قبلها ألف مرة، نواري أحلامنا ونودع أمالنا ونهيل التراب مرغمين على ذكرياتنا، تسقط عنا ضحكاتنا ولا يجدي ما نرتديه من ابتسامات زائفة لتصبغ الروح بلمحات غير يائسة.

أما عن الأحباب وشبح الفقد الذي ترتعد له الألباب، فهذا أسوء الكوابيس التي تنتزع عن أبواب الأمان الترابيس وتزرع في النفس المتاريس، فهم آخر ما تبقى لنا وعمود الأمان الذي يقيم ظهورنا، وكلما بدا الفراق في الأفق اهتز شراع الخوف من خبايا القدر المكنونة، وخارطته التي تلهث وراء الأعمار بصورة مقررة ومسبقة ولكنها دائماً غير متوقعة.

للموت خطة محكمة لا تحتاج مقدمات رتيبة أو مرتبة، لا يبالي فهو رفيق الاصحاء والمرضى على حد سواء، لا ينظر إلا مُستقبِله طفلاً أو كهلاً، هزيلاً أم شاباً، إمرأة أو رجل لا يصنع هذا فرقاً ولن يؤخر أو يستقدم قراراً فهو يفعل ما وكل به دون أن يهتز طرفه، فساعة الرحيل إذا دقت لن يثنيه عن عمله غياب السبب أو انعدام المنطق، فتلك كلمة الله التي لا راد لها، قدره الذي يسبق وجودنا على الأرض، لذا له ما أعطى وله ما أخذ.

أما عن أسباب العشق المختوم بوسوم الجنون، فيكفي لهذا الضيف الثقيل أنه أصدق من دق أبواب الحياة، فهو الوحيد الذي لن يحنث وعد ولم ينقض عهد، هو الحقيقة الواضحة التي رفع عنها قلم السؤال وسجل الجواب، هو القبيح الذي لم يتجمل، الصدوق الذي لا يتأخر، بالرغم من قسوته إلا أنه خلوق فهو لم يدعي الرحمة ولا وصف نفسه بالبساطة، لم يرتدي ثوب النسك ومسبحة الزهد.

خلقه الله ليطل برأسه القبيح مع كل بداية جميلة، فهو الصرخة التي نبدأ بها الحياة، مرآة القلب التي تطمس مع كل مشاعر تُخمَد، وأحلام توأد وأشخاص تفقد، ولكن يكفيه شرفاً أنه لم يدعي ماليس عليه يوماً، لذا فرغماً عن قسوته له احتراماتي، ومهما كان فهو أكثر رفقاً من كثير من المدعين الذين قابلناهم في تلك الحياة، فالموت يقبض روحك مرة، أما البعض يتلذذ بعصف روحك كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويكفيه أنه مأمور ليس له اختيار، ليس كالبعض صاحب قرار يبالغ في أذيتك بسرور وهو على ذلك ليس مجبور.

وبرغم قبحه فهو رفيع الذوق، لا يختار إلا الأخيار، ولا يتأخر على الأبرار، ولا يبوح بالأسرار، الموت عادل وإن تعددت طرقه فالخاتمة معروفة وكلنا أمام طقوسه سواسية الأمير والغفير، المظلوم والظالم، التقي والفاجر، أما ما يليه فهو الحصاد الذي بددنا أعمارنا عليه.
الموت أمل، بداية جديدة لم تمنحها الحياة، قصاص عادل ضنت به الأيام، تحقيق لدعوات تستقبلنا على أبواب السماء، فرصة مؤكدة للشكوى للعدل الذي لا ينام من ظلم الأنام.

بلغت بنا التجربة واكتشاف الحياة والمعرفة ما يجعل قائمة الأمنيات في العام الجديد ليس عليها إلا سطرين، فقد خلت إلا من أمنيتين أولها (اللهم اخرجنا منها غير فاقدين)، يا الله لم يعد على الأرض متنفساً غير البعض، وجودهم يمنح للغد مبرر ومن اليوم معنى فلا تحرمنا أنفاسهم، يا إلهي أنت تعلم كم اشتاق لوجهك الكريم، أعلم أن يدك الحانية سترتب ما بعثره خلقك، كلي يقين أن نسمات الرحمة لن تأتي إلا من أبوابك، لكن ياربي هي تلك النزعة الإنسانية التي تتعلق بحبال الأسباب البشرية وتجعلنا نتناسى إرادتك السماوية (اللهم انزع عنا كل تعلق زائف وحلم زائل )وتلك هي الأمنية الثانية.

يوماً سألقاك ولست متيقنة إن كان سعيي في الحياة نال رضاك، ولكن كلي يقين أن حبك كان ديني وتعلقي بك هو إيماني ويقيني، فأغفر لي شغفي الذي تسبب أحياناً في حنقي وفرحي، قربي وبعدي، فلا ملجأ منك إلا إليك، إلهي اجعلني ممن يستحق رحمتك، وأجعل ما سطرته على شاهد قبري الذي استودعته بعضي شفيعاً لي ، "مرّت من هُنا ولم تكن يوماً إلا مسالمة، لكن لا يعني ذلك أنها لم تكن مقاتلة، ولكن كيف لسيف الأحلام أن يهزم قذائف الأقدار، حاربت الدنيا بضحكتها ولكن لم تتوانى الحياة عن كَسر إرادتها، عشقت صدقاً كل من أحبوها وأحبت حقاً كل من كرهوها وعلى رأسهم كانت…الحياة".