الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

معرض الكتاب

نهال علام
نهال علام

كان ياما كان ياسعد يا كرام ولا يحلى الكلام إلا باستدعاء الذكريات، تلك المسكنات المؤلمات المبهجات وليس السبب لذلك إلا من المبهمات!

كان في هذا الطريق الذي لا يشبهه طريق فهو طويل كما الحزن وسريع كما الفرح، على استقامته كان يحوى الكثير من الأسرار فهذه بانوراما حرب أكتوبر وتلك أرض المعارض، التي اتسعت في هذا الوقت لكل مالذ وطاب من روائع الألباب وعلى رأسها معرض الكتاب.

سنوات طويلة أطفالاً كُنا وشباباً صِرنا ولازالت أعظم ذكرياتنا صبيحة عيد الكتاب، فالمعرض كالعيد يأتي في السنة مرة ونعيش عليها ما بين المرة والمرة، نتزود بالزاد والزواد من غذاء العقل والروح الكامن بين غلافي صديق صدوق، يعد بأن لديه الكثير من الأسرار ليبوح، فيهب لأعمارنا الحقيقية آلاف الأعمار الأفتراضية، ويضفي على حياتنا الرتيبة الكثير من الحيوات العجيبة.

وذكرى تلك الأيام المبكرة كم كانت ملونة بقصص عم دهب والمغامرون الخمس وفلاش، وقطعاً ازدانت برجل المستحيل الذي جعلنا نظن أننا بلغنا من النضج أرذله وانتقلنا إلى صفوف القراء الأكثر عمقاً بل الأعمق على الإطلاق على الصعيد الأدبي، كم اضحك كثيراً عندما أتذكر مدى هذا الانطلاق في هذا الطور الطفولي.

أجاثا كريستي وروايات عبير كانت بلاشك  أول الخطوات الواثقة لاقتحام مغوار الحياة الواسعة، والترقي في سُلم القراء لمراتب الحب والجريمة وهي لو تعلمون مكانة عظيمة، كانت المرحلة التي تشكلت فيها المعالم الأولى لشخصياتنا، ولم يكن ذلك بفضل ما نقرأ ولكن كل الجِميل يذهب لما كنا نتطلع أن نقرأ، تلك الكُتب التي كانت في حوزة أبائنا وحكراً عليهم هم وأمهاتنا وهي بمثابة صخرة عنيدة أمام أمواج رغبات الطفولة البريئة، ولأن الممنوع مرغوب ظلت أرفف المكتبة العليا في منزلنا هي مبلغ الطموح.

ومع الأيام وكلما زادني الله بسطة في الطول وسعة بين العقول مددت يدي لتنول ما تطول، وكأنه كنز على بابا المليء بأسرار إحسان والسباعي وإدريس، ومحفوظ وهوجو وهيمنجواي، الحكيم وطه حسين، العقاد ومصطفى محمود وجبران، أنيس منصور وإيزابيل و عبد المجيد، هيكل و أمين، بهاء طاهر ولطيفة الزيات وغيرهم ممن أثروا روحي في تلك السنوات، عالم اكتشفته مليء بالؤلؤ والمرجان فعشقت كل هذا الجمال.

قرأت ما أوتيت إليه سبيلاً وأصابني الغرور ما استطاع إلي طريقاً وأصبح لي صديقاً، فوسط أقراني أنا من من قرأت اشعار قباني، بينما هم بعض صبية لازالوا يتبادلون حلول الألغاز في مجلة فلاش. 
تذكرت هذا الغرور المضني الذي مهما اعتذرت عنه لا يجدي، ولكن انتقام الله العادل سقط فوق رأسي مع كل كتاب أعدت قرائته، فاكتشفت إنني في تلك السن الصغيرة كنت قارئة نهمة اهتم بالمظهر لا بالجوهر فكنت كالحمار الذي يحمل أسفارا، يحملها على ظهره دون أن يتسلل منها شئ إلى رأسه، وكذلك أنا، قرأت ولكن ماجنيت إلا القشور ولم أدرك عمق تلك البحور التي أبلغها في كل مرة أعيد فيها قراءة كتاب مما قرأت يوماً.

ولا ألوم عقلي في تلك السن المبكرة فلقد اجتهدت وبذلت وقتاً واسرفت شغفاً، ولكن ما قيمة هذا كله دون أن يلتقي بالتجربة!
وربما أذهب في دفاعي عن حالي لعباءة أنيس منصور الفلسفية التي ظهرت في بعض أعماله كصورة واقعية ممتزجة بتفاصيل حياتية كما هو الحال مع رائعته ٢٠٠ يوم حول العالم، وهي من الكتب القليلة التي لم يتغير استيعابي واستمتاعي لها كلما تدرجت سُلم الحياة.

ويكافئها بجدارة روايات إحسان التي استقبلتها بحرارة، فها أنا صرت تلك المرأة الصغيرة التي تقرأ مشاكلها على يد قامة كبيرة، ولكن إحقاقاً للحقيقة وأعلم أن الكلمات التالية قد تغضب بعض مناهضي الجهر بالحقائق وعدم مخالفة ما استقر عليه الخلائق،  لذا لتستكمل السطور إذا استنفرت، لازالت أفكار إحسان كانت سباقة ورائعة، وهي من المحاولات الجادة على طريق النسوية المبكرة، ولكن معالجتها ضعيفة ولغتها سهلة بدرجة مخيفة، فهي تمثل لي أدباً فكرياً متطوراً ولكن سرداً بدائياً ملوناً.

وأتذكر عندما أعدت قراءة أولاد حارتنا لنجيب محفوظ ولم أرى ما ظل في رأسي لسنوات أنها رواية تمس الذات الآلهية، كم كنت ضحلة لاستقبل أمواجه الفلسفية العميقة، أما الأدب العالمي فكان الرابط الأساسي به تعليمي، فالقصص المقررة في منهج المدرسة مثل كونت دي مونت كريستو لألكسندر توماس وقصة مدينتين وآمال عظيمة لتشارلز ديكنز، ولكن عندما اختلفت القراءات والمصادر والنوايا من كسب الدرجات للتعمق في المكنونات كم اختلفت المخرجات!

ولن أغفل كتب مصطفى محمود التي بدت لي طلاسم منمقة ولم ادرك فلسفتها المتدرجة، أما الكتب الصوفية التي تأخذك للسماوات بأريحية كالمنقذ من الضلال وإحياء علوم الدين للإمام الغزالي كانت فوق احتمالي، ولكن مع نضج القلب وتعب النفس كانت بمثابة الطوق الذي استطاع ان ينتشلني من اليأس، فهي جسدت رحلة الأمام من المشكوك للملموس فكانت درباً لكل المحسوس دون أن يكون منطوق.

عالم الكتب هو العالم الذي ابتدعه الإنسان فبث فيه من نفسه، بفجورها وتقواها، ضعفها واستبدادها، زهدها واستكلابها، حنانها وقسوتها، ظلمها وعدلها، لذا بدا هذا العالم الورقي المبني على الحروف والنقص الذي يقطن النفوس أكثر طبيعية وصورة حقيقية لانعكاس الطبائع البشرية، فهو عالم البوح جهراً بما يجاهد الناس ليخفوه سراً.

لذا يستحق للكتاب أن يكون له عيد وحده دون شريك، وإذا كان الثالث والعشرين من إبريل هو اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف فإني أرى ذلك تعدي على حق الكتاب الذي لا ينبغي لأحد أن يشاركه حتى لو كان مؤلفه، فالكتاب هو تيمة لعالم لولاه لأصبح بلا قيمة، فدونه لم نكن لنسمع عن السابقين ولا أدرك عن أمرنا اللاحقين، لذا فمعرض الكتاب هو تجسيد لتزاحم الأفكار ورحلتها من رحم الحياة لمهد الورق.

لذا أدعوكم جميعاً لزيارة معرض القاهرة الدولي للكتاب في نسخته الرابعة والخمسين، بأرض المعارض الدولية، هذا المكان الذي أضفى للكتب رونقها المستحق بعد تداعي أرض المعارض والذكريات، وفي وسط موجة الغلاء العالمي وارتفاع سعر الورق الجنوني تحرص دور النشر على تقديم العروض المخفضة والسعي للموازنة بين الثقافة والتجارة فالنشر رسالة ربحية لا يمكن أن تستكمل دورتها إذا لم تبيع لتنتج من جديد، ولكن حتى وإن لم تنتوي الشراء فاذهب واحصد مقاصد البهجة، واستمتع بشخشخة صوت أوراق الكتب الحديثة ورائحة الكتب القديمة، وقلق كاتب ينتظر الثناء على روايته الوليدة، ورؤية طفل يحتضن كتاباً ابتاعه للمرة الأولى فتلك تجربة فريدة.