الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نسخة متفردة لمعرض الكتاب

نهال علام
نهال علام

أوشك العيد على الانتهاء، وشتان بين ذلك الوجل الذي سطرت به مقال الأسبوع الماضي، وبين الوَجد الحاضر في روحي وأنا أرتب تلك الحروف لأسطر مقال هذا الأسبوع، إنها الساعات الأخيرة قبل أن تسدل النسخة الرابعة والخمسين لمعرض الكتاب أسمالها على وعد بلقاء قريب بعد عام بالتقريب.  

يملأني الحزن بسبب انقضاء أيام المعرض المبهجات، ويتملكني الفرح على حصاد تلك الأيام العزيزات، وتلك الثروة الأصيلة من الذكريات السعيدة التى ستبقى في ذاكرتي ما بقي من سنوات العمر، وتلك الأحداث الفريدة صنعها جمهور المعرض، هذا المواطن الواعي الذي يعول عليه مهما كانت الأزمات شديدة.

بدأ المعرض وسط تخوفات شديدة، وسط زيادات كبيرة في أسعار الورق ومستلزمات الطباعة، ما انعكس على سعر الكتاب دون شك، وأثر على عدد الإصدارات الجديدة بالسلب. 

أزمات عديدة واجهت عالم النشر على مدى سنوات طويلة، ولكن بداية من أزمة كورونا أصبح محكا حقيقيا لقدرة الناشر على الاستمرار، ومع الحرب الروسية الأوكرانية وظلال الأزمة العالمية، تفاقمت مشكلات الناشرين وأصبحنا أمام معضلة قد تقصف بعمل الناشر وتهدم طموح الكاتب، وتطيح بشغف القارئ.

لذا اتخذت دور النشر العديد من الآليات التي تعتمد على التباديل والتوافيق بما يتماشى مع السياسة العامة للدار، وذلك إما بتوسيع عدد العناوين وتقليل عدد النسخ، أو بتقليص عدد العناوين وزيادة عدد النسخ، ولكن أهم ما اتخذته دور النشر على تعددها واختلاف رؤيتها هو توفير عروض حقيقية لجمهور المعرض، وبالفعل التزمت دور النشر ببيع الإصدارات بثمنها المناسب، فإصدارات العام السابق التي لم تشهد تغيير سعر الورق ظلت بأسعارها ولم تطلها الزيادة، وأيضاً قدمت الدور عروضا ترويجية على الإصدارات الأقدم بأسعار جاذبة وتخفيضات ثرية تثير شهية القارئ وتغازل حلمه بتكوين مكتبته الخاصة.

وجاء دور الدولة واضحاً، يعكس رؤيتها فيما يتعلق بعالم الكتاب والثقافة، وهذا ما شهدته أروقة المعرض، من الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة مثل النظافة والنظام، والحرص على توظيف الإضاءة المناسبة ومراعاة التهوية الجيدة في التصميم، كما كان أيضاً لافتاً التنظيم الرائع من شباب المتطوعين وحرصهم على مساعدة الجماهير، والإجابة عن استفساراتهم بصبر شديد، ومن التفاصيل المهمة أيضاً أو ربما هي الأهم على الإطلاق هي شبكة المواصلات الهائلة المخصصة لخدمة زوار المعرض، أتاحت تلك الشبكة العملاقة فرصة حقيقية للمهتمين بزيارة المعرض مهما بعدت المسافات، فتمت مراعاة ترابط ووفرة وسائل النقل والمواصلات بما يكفل رحلة سهلة لرواد المعرض.

حرصت الدولة على أن تظل تذكرة المعرض رمزية فلم يتغير سعرها عن الخمسة جنيهات، واستجابة للفروق الفردية بين جمهور المعرض، يمكن للزائر أن يحجزها إلكترونياً عن طريق موقع الهيئة العامة للكتاب، أو ورقياً من شبابيك التذاكر المتوفرة بالقرب من بوابات الدخول. 

واهتمت الدولة اهتماماً بالغاً بالندوات الثقافية التي اقيمت على هامش معرض الكتاب، فجاءت مكثفة ومتعددة ومتنوعة تخاطب جميع التخصصات الأدبية والعلمية، وكل الأطياف الفكرية والثقافية، كما جاء المسرح المقام أمام صالات المعرض لتكتمل آليات صناعة الوعي بأهم أدواتها وهي الفنون، وشهد المسرح على مدار اليوم جميع أنواع العروض الغنائية والموسيقية من الجاز لموسيقى مطروح، ومن الفنون الشعبية للموسيقى الكلاسيكية.

وإن كان من باب حب القرب من الاكتمال وهذا قريباً من أوجه الاحتمال، نرجو مراعاة التغطية الجيدة لشبكات الإنترنت، وذلك لتكتمل الصورة بالبث المباشر على شبكات التواصل الاجتماعي لمغازلة البعد الإنساني في الذات الوجداني، مما له أثر على جذب المزيد من القراء.

ولن نغفل دور الناشر العربي أيضاً الذي لم يتراجع عن الحضور رغم أن تلك النسخة الاستثنائية قد لا تكون مربحة على الإطلاق، ولكن تلك المحبة والاهتمام بالتواجد داخل أهم معرض كتاب في الشرق الأوسط والأقدم في الوطن العربي والثاني عالمياً من حيث الأهمية، والذي يقام في منارة الشرق التاريخية مصر أم الدنيا، جعل قرار الناشر العربي واضحاً وقاطعاً فشرف المشاركة المعنوي يغلب غرض النشر المادي.

ولكن بالرغم من المجهود الحقيقي الذي قدمته الدولة والمتضافر مع المساعي الدؤوبة لدور النشر المصرية والعربية، إلا أن ذلك لم يكن كفيلاً بإذابة جلمود الخوف حول مدى الإقبال الجماهيري، والذي كان مبهراً وبكل المقاييس ساحراً، وسط موجات الغلاء والأسعار التصاعدية وعدم استقرار الحالة الاقتصادية، إلا أنها حالة الوعي الثقافية التي أثبتها المواطن المصري صاحب الچينات الحضارية.

وبالرغم من كل ما يطال حال القارئ العربي وما يتردد عن تدني مستوى القراءة، إلا أن مصر تحتل المرتبة الخامسة بمعدل سبع ساعات ونصف أسبوعياً والسعودية المرتبة الحادية عشرة، لذا لدينا قارئ بالفطرة، فأجداده هم من سطروا تاريخ الإنسانية على جدران المعابد.

ومن المثير للفرح التغيير الحقيقي في التفكير النقدي للقارئ، فمنذ ثلاث سنوات في عصر ما قبل الكورونا أذكر بالملاحظة المجردة والتي قد تصادف الصواب أو الخطأ، أن زحام المعرض كان للنزهة والترفيه الخالي من الثقافة، وكان الإقبال الأكبر على الكتب الخفيفة البعيدة عن العمق الفكري والثقافي والتي تجنح لغتها نحو لغة الشارع العصماء، فكنا على شفا جرف هار من الانزلاق في ثقافة المهرجانات المقروءة، وهو ما شهدنا تراجعه بشكل ملحوظ، سواءُ في نوعية الكتب المطروحة أو في اختيارات القارئ المفتوحة.

شهدت تلك النسخة قارئاً متنوراً، يبحث عن العنوان الجاذب ويمنح من وقته للتعرف على الوجوه الجديدة في عالم القراءة، بعيداً عن فكرة المسميات الوهمية وفكرة “البيست سيلر” البالونية، إذ كانت وبلا شك نسخة متفردة انتصر فيها القارئ للمفهوم الأسمى للقراءة وللمجد الأعلى لكل ما بنيت عليه عمدان الحضارة، فنحن أبناء الكاتب المصري وأحفاد مخترعي الأحبار والبردي، لذا فالمجد لهؤلاء الأحفاد الذين انتصروا لروح الأجداد.

لذا شكراً لكل للعائلات التي تحملت صخب أطفالها ومشقة طفولتهم من أجل زيارة المعرض، شكراً لكل من حمل شنطة السفر المبهجة وأعد عدته ليسافر عبر الكتب لمختلف الأزمان، شكراً لكل أم وأب اصطحب أبناءه ومنحهم فرصة النقد والاختيار وقرار الشراء، شكراً للجيل الذي تفاجأنا به في المعرض هذا الشباب الصغير ممن لم يتجاوز عمره أحياناً العاشرة، والذي كان حاضراً بقوة وواعياً لما يختار ويقرأ، شكراً لكل أسرة واعية اعتبرت الكتاب أولوية كالغذاء، وفي النهاية شكراً لله الذي منحنا جواً مشمساً دافئاً غالبية أيام المعرض، فكان ذلك دافعاً وحافزاً ربانياً كلل به كل ما بذل من مجهود بشري.