الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد نجم يكتب: المسحراتي وفن " القوما "

أحمد نجم
أحمد نجم

لا يمكن أن ننسي صوت الفنان الموسيقار الراحل سيد مكاوي وهو يشدو من ألحانه و كلمات الشاعر الراحل فؤاد حداد أشهر اغنية لسحور  رمضان في العصر الحديث .
إصحي يانايم وحد الدايم .
قول نويت بكرا  إن حييت . 
الشهر صااايم والفجر قااايم .
إصحي يانااايم وحد  الرزاااق .
رمضااااان  كريم .

ومع إحترامنا المؤكد للفنانين الراحلين وللكلمات التي تعبر عن جذور ثقافتنا وتقاليدنا المصرية وكانت تذاع في الإذاعة المصرية إلا أن مسحراتي الشوارع الذي كان يلف أرجاء المدينة كان له عشق خاص في أرواحنا ، ننتظره و نسرع لفتح البالكونات لنراه ونسعد ونطرب لتلك الكلمات التي كان ينطقها . تراث مصري أصيل ليس له مؤلف ، نابع من حنين ودفء الشهر الكريم ..

ارتبط عمل المسحراتي بشهر رمضان ويعتبر من الطقوس الجميلة للشهر الكريم ، المسحراتي يعمل في مهن مختلفة لكن في شهر رمضان يتولي مهمة المسحراتي ، ينتظره  الكبار والصغار بشغف وشوق يطرب الآذان عندما يطوف الشوارع كل يوم قبل الفجر لإيقاظ الناس لتناول وجبة السحور ومعه طبلته الشهيرة ، يدندن عليها ثم يأتي مهنئا اول أيام العيد ، فيكرمه المسلمين بالعطايا سواء المادية او العينية . تقديرا لدوره وفنه الشعبي الجميل ،

واعتبر  بعض المؤرخين في العصر العباسي  أن ما يقدمه المسحراتي هو فن إرتجال كلمات زجلية تراثية وأطلقوا عليه  إسم  فن " القوما " وهو فن ينتمي للشعر  نسبة لبداية الإرتجال عند المسحراتي الذي يبدأ  بكلمة " قوم للسحور "

عم محمد رحمة الله عليه كان  مسحراتي المنطقة التي أقيم فيها . حين نسمع صوته من بعيد ينادي علي كبير الأسرة  بإسمه .كانت النوافذ و البالكونات تتفتح لتستقبله . كنا أطفالا نفرح بقدومه وأغانيه الجميلة وهو ينادي علي أصحاب البيوت بكلمات غنائية لها طابع شعبي زجلي . كان أخي الكبير فاروق محظوظا حين يأتي عم محمد  وينادي بكلمات يرتجلها بإسمه لايزال صداها الجميل في أذني  : 
إصحي يا إستاذ فاروق . إصحي وفوق . وخلي الدنيا تروق . السحور يا ذوق .

كنت أتمني مثل كل الأطفال أقراني أن يناديني عم محمد بإسمي ويغني لي أغنياته الجميلة علي الطبلة و المزمار  ويردد الأناشيد الدينية . لكن كيف وأنا الصغير .  ذات يوم أنتظرته قبل أن يأتي لحيث منزلنا واعطيته نقودا إدخرتها من مصروفي وطلبت منه أن ينادي إسمي .. لازلت أذكر كلماته المرتجلة التي كان يناديني بها ويفرح بها كل السكان ليس في منطقتي فقط ولكن في كل الأماكن ..

للمسحراتي عشق خاص في تراثنا المصري  وتقاليدنا الإسلامية . وكان سيدنا بلال بن رباح مؤذن الرسول الكريم  أول من قام بعمل المسحراتي بعد أن طلب منه الرسول الكريم الطواف علي بيوت المسلمين لإيقاظهم لتناول السحور . وكان يردد حديث الرسول الكريم " تسحروا فإن في السحور بركة . وكان يعقبه عبد الله بن أم مكتوم ينادي علي المسلمين بالإمساك عن الطعام لقرب الآذان ..

.و جاء في التراثيات أنه منذ 12 قرنأ في عصر العباسيين جاء المسحراتي لمصر علي يد  والي مصر  عتبة بن إسحاق الذي تولى إمارة مصر بعد عزل واليها  عبد الواحد بن يحيى  بأمر من الخليفة العباسي المنتصر بالله محمد . ولاحظ الوالي أن الناس لا ينتبهون لوقت السحور، ولا يوجد من يقوم بإيقاظهم ، فتطوع  بنفسه لتلك المهمة ، وكان يطوف  شوارع مصر سيرا علي قدميه لإيقاظ أهلها ، من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص ،  ينادي الناس بالسحور. لتناول السحور  سنة 238  هـجرية .. قائلا  "عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة

في عصر المماليك كان شيخ المسحراتية يدعي "ابن نقطة" المسحراتي الخاص بالسلطان الناصر محمد بن قلاوون  وكان يستخدم البازة ( الطبلة حاليا ) مرتجلا  أغاني يستعطف بها السلطان، تحت نافذة قصره  ليعطيه المال ،  وأعجب السلطان بصوته وأناشيده و الدق علي البازة "يشدو بأشعار شعبية مرتجلا كلمات لها نغمة . فكان يغدق عليه .

وعقب وفاته تولي أبنه مهمة مسحراتي الخليفة العباسي وكان يخشي أن تنقطع عطايا الخليفة فأنشد له قائلا : 
يا سيد السادات لك بالكرم عادات.. 
أنا إبن نقطة ..  تعيش أنت .. أبويا مات ..
 سمع الخليفة الكلمات وفهم ما تعنيها
وعلم  أن إبن نقطة المسحراني المحبب إليه مات ،  فأمر بإعطاء إبنه ضعف ما كان يمنحه لأبيه. ..

في عهد الدولة الفاطمية أصدر الحاكم بأمر الله   أمرا  للمسلمين بالنوم عقب صلاة التراويح لكي يتسني لهم القيام للسحور و صلاة الفجر , و تطور الأمر بعد ذلك بقيام الجنود بتلك المهمة  . ونظرأ لإنشغالهم بالحراسة ، تم تعيين مسحراتي في كل منطقة يقوم بالمهمة . وكانوا يرددون  جملة ثابتة "يا أهل الله قوموا تسحروا "

الآن ظهرت أساليب مبتكرة للسحور في بعض المناطق بعد أن إنقرض عمل المسحراتي الذي كنا نعشق صوته وكلماته الزجلية المرتجلة . ومع غزو  التوك توك لبعض المحافظات ظهر مسحراتي التوك توك الذي يجوب الشوارع يذبع بصوت  الكاسيت العالي الأناشيد الدينية أو إذاعة القرآن الكريم ، وبعض المناطق يستخدم المسحراتي المتطور موتوسيكل للقيام بالمهمة سريعا . وفي أماكن أخري يستخدم بعضهم الدراجة .

لكن مع التطور يبقي الأصل في الآذان تشتاق إليه الروح في الشهر الكريم ..