قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. أيمن يوسف يكتب: وميض الفيبروميالجيا وسيدة المصباح (1)

د. أيمن يوسف
د. أيمن يوسف

على ضفة نهر أورنو جلس الرجل الإنجليزي يقلب صفحات الماء باحثا عن اسم لمولودته التى بدت منذ الوهلة الأولى تحمل اختلافا في مظهرها وملامحها وربما اختلافا في تأثيرها وحضورها الأخاذ منذ الساعات الأولى لولادتها.

اختار الابوين الانجليزيين اسم المدينة الإيطالية التي ولدت فيها ابنتهما"مدينة فلورانسا" لتكن اسما للمولودة، ولتصبح"فلورنس نايتينجيل" بعد ذلك اسما ورمزا من رموز بريطانيا الفيكتورية، والرمز الألمع في تاريخ العلم والتنوير والإصلاح، لقد كانت مدينة فلورنسا وهج الجمال والثقافة والانفتاح في أوروبا تلك الأيام، كانت مقصد كل الاوربيين وكانت مركز المال والتجارة والفنون والعمارة، الممهد لعصر النهضة في أوروبا العصور الوسطى. ربما انطبعت كل تلك السمات على القشرة المخية للمولودة الجديدة فاكتسبت من سمات مدينة فلورنسا الكثير من تلك السمات والصفات في عقلها ووجدانها وهويتها ما جعلها في مقدمةالرائدات الملهمات عبر التاريخ.

فلورنس نايتينجيل مؤسسة علم التمريض الحديث والمؤسسة الأولى لمدرسة التمريض في العالم، من نقلت مهنة التمريض الى مهنة محترمة اجتماعيا بعد ان كانت من ادنى المهن المعيبة، كانت مهنة التمريض ضمن المهن التي ترتادها الساقطات وبائعات الهوى وعديمات الموهبة والإمكانات، فلورنس نايتينجيل التي أسست معايير الرعاية الصحية الحديثة التي يتم الاعتماد عليها حتى يومنا هذا والتي كانت في مقدمة حركة الإصلاح الاجتماعيوالتنويرفي بريطانيا القرن التاسع عشر.

فلورنس نايتينجيل رائدة علم الاحصاء ومؤسسة علم الرسم البياني الدائري كانت مريضة طريحة الفراش لأكثر من خمسين عاما. نعم لقد عانت على مدار عمرها من اعراض غامضة اردتها طريحة الفراش وحبستها بين أركان غرفتها، وكانوا ينعتونها بصاحبة المرض الخفي..المرض غير المرئي..المرض "البلا اسم".

سألني صديقي لماذا اختار العالم يوم 12 مايو من كل عام ليكون اليوم العالمي للتوعية بمتلازمة "الفيبروميالجيا" ومتلازمة ال "إم إي"؟ قلت له انه اليوم العالمي للتمريض ايضا، انه يوم ميلاد فلورنس نايتينجيل.

لقد اختار العالم تاريخ ميلادها ليكن اليوم العالمي للتمريض واليوم العالمي للفيبروميالجياولمتلازمة الإم إيواليوم العالمي للأمراض المناعية العصبية المزمنة تكريما لها عما قدمته للبشرية، وتذكيرا بمرضها الذي سلبها جسدها وارداها طريحة الفراش الى ان فارقت الحياة،لم يسلبها المرض ارادتها يوما ولا تصميمها ولا قدرتها على الإنجاز الذي غير مسار أوروباومستقبل العالم، لُقبت اثناء حرب القرم “بسيدة المصباح”.

واستوعبت كتب التاريخ هذا اللقب وعرفت واشتهرت به، فقد كانت تخرج حاملة بيدها المصباح لتعالج الجرحى والجنود والمصابين في وردية عمل تقودها بنفسها تمتد لأكثر من 21 ساعة، كانت تكتب بيدها رسائل الجنود لذويهم، حققت الطفرة في انخفاض عدد من فارق الحياة من مصابي الحرب من %40 الى %2 في مستشفى سكوتاري حيث تم انتدابها في جيش بلادها في الحرب ضد روسيا عام 1854، ما حولها الى بطل قومي في بريطانيا ومصدر ثقة واعتماد للملكة فكتوريا والأمير ألبرت في قيادة الإصلاح الاجتماعي والعسكري والصحي لبريطانيا.

لقد عانت فلورنس نايتينجيل من اعراض الموت على قيد الحياة كما وصفت هي، لم يستوعب من يحيا في القرن التاسع عشر ماهية اضطراب الجهاز العصبي المركزي ووهن العضلات النسيجي الليفي وافتقار النخاع العضلي لوظيفته دون سبب واضح من حادث او صدمة جسدية بكيان صلب او سقوط من مرتفع، لم يستوعبوا كمّ الاعراض المتداخل في كافة وظائف الجسد والاجهاد الجهازي الذي يفضي يوميا لأعراض لا تجتمع ابدا.

ولم يستوعبوا حجم الاستنفار الجسدي الذي يظهر على انسان ينازع ويبقى بعد ذلك على قيد الحياة، لقد اشتكت فلورنس من اعراض وهن عضلي يرافقة خفقان وآلام روماتيزمية في القلب وصعوبات في التنفس وافتقاد للشهية وحمى متقطعة وآلام عظيمة ومستمرة في العظام والعضلات الحشوية الداخلية والعضلات الهيكلية، كانت تشكو الارق المزمن والحرمان التام من النوم الى ان ذبلت وشعرت بالضعف والوهن الذي لا يزول.

كان المرض يثور من مجرد سماع الأصوات او استنشاق الروائح النفاذة، وكان يصول في جسدها كلما تعرضت لثقل زائد على بدنها حتى وان كان هذا الثقل مجرد ملابسها التي ترتدي، ربما زادت الدهشة عندما اشتكت من اعراض ذهنية مصاحبه تشتت تفكيرها وتفكك ذاكرتها القريبة والبعيدة وذاكرتها الارتباطية لتجد صعوبة في تركيب الجملة وفي التعبير وفي العثور على الكلمات والقدرة على تتابع الأفكار، بل كان يظهر عليها عدم القدرة على التركيز والمتابعة في حالة وجود اكثر من شخصداخل المكان.

كيف ذلك وهي صاحبة المؤلفات في الصحة والتمريض وصاحبة رواية كاسندرا التي ألفتها في قيود الاعراف الاجتماعية والنظرة الدونية لشأن المرأة، كيف وهي من ألفت كتابها الرائد "ملاحظات حول التمريض" الذي اسس لانطلاق علم التمريض حول العالم، كيف وهي صاحبة وثيقة فلورنس التي شكلت الهيئة الملكية لتحسين صحة الجيش البريطاني ورائدة اصلاح المؤسسة العسكرية في بريطانيا الفيكتورية اعظم ممالك بريطانيا العظمى، المرأة التي تتحدث الانجليزية والايطالية والفرنسية والألمانية واليونانية تتلعثم وتفقد القدرة على التعبير وصياغة الجمل، المرأة صاحبة الموهبة الفذة في الرياضيات من طورت نماذج احصائية باسمها وروضت الرياضيات لخدمة التمريض تشكوا صعوبات جمع الاعداد البسيطة. مخطط كوكسكومب لمعدل الوفيات الذي يتم استخدامه حتى الان من منجزات فلورنس نايتينجيل.

انه "الفيبروميالجيا"Fibromyalgia وأخيه الأشد بأسا ال "إم إي"M.E،الاسم المختصر لالتهاب الدماغ والنخاع العضلي، حصل مؤخرا على اسم مرض عدم تحمل الجهد الجهازي، وتظهر اعراضه ايضا في متلازمة حرب الخليج ومتلازمة ما بعد كورونا العصبية ومرض لايم، انه يسلب منك ذاتك يقترف كبيرة القتل بلا بصمة يتركها، يختار أنبل البشر انسانية وموهبة وأكثرهم نشاطا وحيوية وعطاء.

في كتاب تشخيص العملاقة- حل الألغاز الطبية لثلاثة عشر مريضا غيروا العالم، يحقق المؤرخ الطبي فيليب ماكوفياكPhilip A Mackowiakفي مرض لورنس نايتينجيل الغامض وفي سبب وفاتها، كانت هي المرأة الوحيدة التي تم اختيارها ضمن قائمة الثلاثة عشر من العظماء المرضى الذين غيروا العالم بجانب العديد من الرواد الكبار كدارون واخناتون وابراهام لينكون وسيمون بوليفار، وذلك نظرا لما اثرت به البشرية من ناحية ولشدة مرضها وغموضه من ناحية اخرى، يساعد علم التأريخ الطبي الحديث في فهم مسار الامراض ويساهم في إعادة تقييم البشرية للتشخيصات الرائجة والسابقة، خاصة مع وجود بيانات في تشريح الجثامين والخرائط الجينية.

ربما اثبتت كثير من المؤشرات ان السبب المباشر للوفاة كان الإصابة بمرض الزهايمر في الخمس سنوات الأخيرة من عمرها، الا ان أهمية تلك الدراسة تأتي في كم التشخيصات والاتهامات التي منيت بيها "سيدة المصباح" في حياتها، كثيرا ما اتهموها بالجنون والادعاء وكره الذات المكبوتة كمرض عقلي وصل بها الى حد هذه "الجسدنة"، حصر كثيرين تشخيصها في اصابتها بداء القرم والزهري واضطراب ما بعد الصدمة والاضطراب ثنائي القطب والزهايمر وخرف الشيخوخة.

ربما أعاد كوفياك في ورقته البحثية "تفاعلات الاجهاد اللاحق للصدمة قبل ظهور اضطراب ما بعد الصدمة: الآثار المحتملة على حياة وتراث الاسكندر الأكبر- جيمس كوك- الشاعرة ايميلي ديكنسون- فلورنس نايتينجيل" نفس ذاك الطرح عن اضطراب ما بعد الصدمة ، الا ان طبيعة تلك المتلازمتين تقف بخبث شديد في مناطق إلتقاء مع كافة امراض الأرض وتهدي اعراضها لهذا المريض، ولا يعتقه من النعت بها الا تحاليل الاستبعاد لتلك الامراض.