في خطوة تاريخية تعكس تحولاً مهماً في الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة قراراً يقضي بالمضي قدماً في تسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي عبر تنفيذ حل الدولتين، وذلك بتأييد 142 دولة مقابل معارضة 10 دول وامتناع 12 عن التصويت.
ورأى خبراء سياسيون في تصريحات لوكالة أنباء الشرق الأوسط أن القرار يشكل خارطة طريق واضحة المعالم نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة، تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل في إطار سلام شامل وعادل ودائم، مشيرين إلى أن القرار تضمن جملة من الالتزامات والضمانات، أبرزها الوقف الفوري لإطلاق النار في غزة، وإطلاق سراح الرهائن، وإنهاء الاحتلال، ورفض أي تغييرات أحادية على الأرض أو تهجير قسري للفلسطينيين، إلى جانب إدانة كافة أشكال العنف ضد المدنيين.
واعتبروا أن القرار خطوة متقدمة على طريق تحقيق التطلعات العربية والفلسطينية، مشددين على أن الحل السياسي وحده هو السبيل لإنهاء دوامة الحرب وتحقيق الأمن والسلام لشعوب المنطقة.
وفي هذا الإطار.. أكدت الدكتورة أريج جبر أستاذة العلوم السياسية الأردنية، أن اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة لـ (إعلان نيويورك) بشأن تسوية القضية الفلسطينية وحل الدولتين يشكل محطة سياسية وقانونية ذات دلالات عميقة، موضحة أن انعقاد الجمعية العامة في هذا التوقيت، بعد عقود من التهميش والازدواجية في التعاطي مع القضية الفلسطينية، يعكس مفارقة تاريخية وعودة لهذه المؤسسة الأممية إلى الواجهة، في مواجهة كيان محتل يحاول فرض سياسة الأمر الواقع وتغيير معالم الأرض والهوية عبر الاحتلال والاستيطان والتطهير العرقي.
وقالت إنه من الناحية السياسية، فإن التصويت الكاسح لصالح الإعلان (142 دولة) يعكس حجم العزلة الدبلوماسية التي تواجهها إسرائيل، ويكشف إدراكًا دوليًا متزايدًا بأن الاحتلال بات عامل تقويض للأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.. مضيفة أن الرعاية المشتركة لفرنسا والسعودية تكشف عن دينامية جديدة بين أوروبا والعالم العربي، قادرة على صياغة مبادرات خارج الهيمنة التقليدية للولايات المتحدة، التي لطالما احتكرت مسار التسوية والعبث بمصير المنطقة ومصادرة حقوق الشعب الفلسطيني تحت مظلة مفاوضات سلام.
وأوضحت أنه في المقابل، فإن رفض إسرائيل واتهامها "إعلان نيويورك" بأنه مسرحية عبثية يؤكد تعمّق الهوة بين سياساتها والشرعية الدولية، ويعكس تصلبًا استيطانيًا توسعيًا يضعف فرص تحويل هذا الزخم الأممي إلى عملية سياسية عملية، وأن "إعلان نيويورك" مصيره سيلقى مصير مئات القرارات الصادرة عن الشرعية الدولية وخاصة تلك المتخذة من الجمعية العامة للأمم المتحدة والمعنونة بإعلان أو توصية أي ما دون قرار ملزم وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
ونوهت الدكتورة أريج جبر بأن القيمة القانونية للإعلان تكمن في كونه وثيقة تستند إلى قرارات الأمم المتحدة السابقة ومبدأ الأرض مقابل السلام والمبادرة العربية، ما يمنحه مكانة مكملة للأطر القانونية القائمة بل ويشدد عليها، كما أن تضمينه لخطوات محددة بإطار زمني ولا رجعة فيه يضفي عليه طابعًا عمليًا يتجاوز البيانات الرمزية التقليدية، ويمنحه قوة دفع إضافية على المستوى الدبلوماسي.
وخلصت إلى أن "إعلان نيويورك" يمثل أداة سياسية ودبلوماسية قوية تعكس توافقًا دوليًا واسعًا، ويعيد القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الأممية، وقيمته تكمن في دلالاته السياسية والرمزية، وفي إمكانية استثماره كمدخل لمرحلة تفاوضية جديدة، شريطة أن يحسن الفلسطينيون والعرب استخدامه ضمن استراتيجية موحدة، وأن يتوافر استعداد دولي لتحويل هذا الزخم السياسي إلى إطار تفاوضي ملزم يوقف الاحتلال ويؤسس لتسوية عادلة ودائمة.
من جانبه.. أكد الخبير السياسي شاذلي القرباوي، أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة بشأن حل الدولتين وإعلان الدولة الفلسطينية، يمثل نجاحًا جديدًا للدور العربي المبذول على مدى السنوات الماضية، على الرغم من الضغوط غير المسبوقة التي مارستها الولايات المتحدة دعماً لحليفتها إسرائيل.
وأوضح القرباوي أن السر وراء الوصول إلى هذه النتيجة المتميزة يتمثل في نجاح القيادة السياسية المصرية في حشد الدعم العربي والدولي المؤثر لصالح الشعب الفلسطيني، مشيرًا إلى أن القرار سيسهم في تهيئة أجواء أكثر قوة وفاعلية للحدث المرتقب في 22 سبتمبر الجاري على هامش اجتماعات الجمعية العامة، بما يشجع دولاً أوروبية كبرى على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وأشار إلى أن الأغلبية الكاسحة التي دعمت القرار عرّت جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وكشفت المجتمع الدولي عن قناعته بأن إسرائيل كيان إجرامي.. مؤكداً أن ما كانت تروج له من ذرائع لم يعد له أي أساس، وأن القرار يعزل إسرائيل والولايات المتحدة عن العالم لأول مرة بهذا الوضوح، ويفضح عربدة الاحتلال وممارساته.
وشدد القرباوي على أن القرار جاء في توقيت بالغ الحساسية، في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة والضفة الغربية، والأحداث الأخيرة التي شهدتها قطر.. لافتاً إلى أن القرار يمنح "إعلان نيويورك" الذي تبنته السعودية وفرنسا في يوليو الماضي مصداقية ووزناً دوليا أكبر.
بدورها.. قالت الدكتورة تمارا حداد أستاذة العلوم السياسية الفلسطينية، إن اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا بشأن تسوية القضية الفلسطينية وحل الدولتين يعكس رغبة المجتمع الدولي في ترسيخ قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، مؤكدة أن هذا القرار يحمل أهمية سياسية كبيرة ويجب البناء عليه.
وأوضحت حداد أن "المطلوب الآن هو أن تتبنى إحدى الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، وخصوصًا فرنسا باعتبارها عضوًا دائمًا، هذه التوصية وتحويلها إلى مشروع قرار داخل المجلس، من أجل الدفع نحو التنفيذ العملي لحل الدولتين وتجسيد الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967".
وأضافت أن "القرار يعكس أيضًا رسالة سياسية واضحة، حيث أيدته 142 دولة، ما يؤكد أن هناك حراكًا دوليًا وإقليميًا متناميًا بات ينظر بجدية إلى الدفاع عن القضية الفلسطينية وضرورة إيجاد حل سياسي جذري لها".
وتابعت أن هذا التطور يشكل حراكًا سياسيًا إيجابيًا جاء نتيجة جهد عربي وإقليمي ودولي، لكن الأهم هو ترجمته على أرض الواقع من خلال أدوات التنفيذ القانونية والسياسية والاقتصادية والأمنية، حتى تتحول الدولة الفلسطينية من مجرد اعتراف إلى واقع قائم يتمتع بالسيادة الكاملة والشخصية المعنوية في النظام الدولي.
وشددت حداد على أن "القرار يكشف كذلك ازدواجية الموقف الأمريكي، إذ لطالما رفعت الولايات المتحدة شعار حل الدولتين دون أن تعمل فعليًا على تنفيذه؛ الأمر الذي سيتضح أكثر إذا ما استخدمت "الفيتو" ضد أي مشروع قرار في مجلس الأمن".
واختتمت تمارا حداد تصريحاتها بالتأكيد أن إسرائيل اليوم غاضبة من هذا الحراك السياسي الشامل، لأنه يضعها في مواجهة إرادة دولية متزايدة تسعى إلى فرض حل الدولتين كخيار وحيد يضمن الاستقرار، ويؤسس لسلام عادل يحقق الأمن الإقليمي ويكفل الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
وفي السياق ذاته.. أكد الدكتور جهاد الحرازين أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، أن اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار "إعلان نيويورك" المتعلق بتسوية القضية الفلسطينية وحل الدولتين يشكل ضربة قاصمة لمخططات الاحتلال الإسرائيلي، خاصة فيما يتعلق بالاستيطان وسياسة الحرب والإبادة التي يمارسها ضد الشعب الفلسطيني.
وقال الحرازين إن القرار جاء بمثابة رسالة واضحة من المجتمع الدولي الذي بات يدرك حقيقة الاحتلال بشكله الكامل، بعدما سقطت الرواية الإسرائيلية أمام العالم، واتضح أن الاحتلال غير شرعي وغير قانوني، وأن ما يرتكبه من جرائم إبادة واستيطان يمثل انتهاكًا صارخًا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
وأضاف أن التصويت الكاسح من جانب 142 دولة مقابل اعتراض عشر دول فقط يعكس العزلة الدولية التي تعيشها حكومة نتنياهو، مشددًا على أن القرار يمثل "صفعة سياسية قوية على وجه حكومة الاحتلال الإسرائيلي".
وأوضح أستاذ العلوم السياسية أن المطلوب في هذه المرحلة هو التحرك الفوري لترجمة هذا القرار إلى خطوات عملية، سواء من جانب الدول التي صوتت لصالحه عبر ممارسة ضغوط مباشرة على الاحتلال، أو من خلال الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة، وصولًا إلى تمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة، وفرض وقف فوري لإطلاق النار، وإدخال المساعدات، والبدء في عملية بناء الدولة الفلسطينية.
وأشار الحرزين إلى أنه "لم يعد مقبولًا دوليًا استمرار سياسة الغطرسة والعنجهية التي يمارسها نتنياهو وحكومته"، مؤكدًا أن الحلول الأمنية والعسكرية لم ولن تحقق الاستقرار للاحتلال، بل تزيد من حالة الكراهية والتطرف في المنطقة.. وقال إن السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والسلام يتمثل في الانصياع للشرعية الدولية والجلوس على طاولة المفاوضات والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.