كشف المؤرخ الفلسطيني الدكتور جوني منصور، عن تفاصيل نادرة وغير مطروقة من المحفوظات الملكية المصرية، تسلط الضوء على فترة الحكم المصري بقيادة إبراهيم باشا (1831–1840)، مؤكدًا أن هذه التسع سنوات القصيرة، رغم محدوديتها الزمنية، كانت بمثابة مرحلة مفصلية أعادت رسم بنية القدس الإدارية والاجتماعية والاقتصادية وأطلقت أولى خطوات الحداثة في المدينة.
جاء ذلك خلال ندوة نظمها منتدى الفكر العربي في العاصمة الأردنية عمّان ، بحضور المؤرخة الدكتورة نائلة الوعري، ونخبة من الخبراء والمتخصصين ،وبتقديم الدكتور محمد الحوراني، ومشاركة الدكتور صلاح جرار.
وأوضح منصور أن كتابه "القدس في المحفوظات الملكية المصرية" يستند إلى نحو ١٨٠ وثيقة مصرية أصلية، جمعها المؤرخ الدكتور أسد رستم من المحفوظات الملكية في قصر عابدين بالقاهرة، مصنفة في ثلاثة محاور رئيسية: الجهاز الإداري، الحياة الاجتماعية، والاقتصاد المحلي.
وقال إن هذه الوثائق تكشف عن تفاصيل دقيقة لم تذكر من قبل، وتمنح القارئ نافذة حقيقية على المدينة وعلاقات سكانها، بعيدًا عن السرديات الكبرى.
وبين منصور أن الإدارة المصرية لم تكتفِ بوضع القرارات العليا، بل أرادت إحداث تغيير جذري في بنية السلطة، فأنشأت مجالس شورى ضمّت وجهاء من جميع الطوائف، لتنظيم شؤون المدينة وإشراك السكان المحليين في عملية اتخاذ القرار، كما سعت إلى محاربة الفساد، ضبط الأسواق، مراقبة الضرائب، وتنظيم الحرف التقليدية مثل صناعة الصابون والنسيج.
وأكد أن هذه الإصلاحات شكلت "صدمة حداثية" للمجتمع المقدسي التقليدي، ومهدت لتغييرات كبرى عاشتها القدس في أواخر العهد العثماني.
وأشار إلى أن الوثائق تمنح القارئ أيضا صورة حيّة للحياة اليومية للمقدسيين منها نزاعات على الأراضي، شكاوى الجيران، عقود الزواج والطلاق، مسائل الميراث، الرسوم والضرائب، وحتى تفاصيل صغيرة مثل تنظيم الأسواق وضبط الأسعار ومراقبة جودة الحرف المحلية.
وأضاف أن الإدارة المصرية حرصت على التسامح المنظم، عبر أوامر إبراهيم باشا بحماية الكنائس والأديرة وضمان حقوق رجال الدين، ما يبرهن على محاولة تأسيس مواطنة متساوية قبل عصرها.
ولفت منصور إلى أن قيمة الكتاب تكمن في اعتماده على الوثيقة الرسمية كمصدر أولي، بعيدًا عن التحليلات الأيديولوجية، مما يحوّل السجلات الإدارية الجامدة إلى شهادات حيّة تكشف عن نبض مجتمع متعدد الأوجه، وتظهر كيف ارتبطت السلطة المركزية بنشاط المجتمع المحلي، وكيف حاولت إدارة إبراهيم باشا تحجيم نفوذ العائلات الكبرى دون المساس بنسيج المدينة الاجتماعي.
وأكد أهمية الأرشيف المصري في إعادة قراءة تاريخ القدس من زوايا جديدة، وكشف تفاصيل دقيقة للحياة اليومية والسياسة والإدارة والاقتصاد في المدينة.
ومن جانبها، استعرضت الدكتورة نائلة الوعري أبرز محاور كتابها الجديد "مسيرة النضال الشعبي في القدس"، الذي يوثق أكثر من قرن من المقاومة الشعبية الفلسطينية منذ عام 1917 وحتى عام 2025.
وأكدت أن القدس قادت مسيرة النضال بوصفها العاصمة الجامعة للهوية الوطنية الفلسطينية، وأن المقاومة الشعبية لم تكن خيارا عابرا، بل نمط حياة شامل شاركت فيه مختلف فئات المجتمع، ابتكرت أشكالًا خلاقة من النضال السلمي، وجعلت التجربة الفلسطينية موضع دراسة عالمية إلى جانب تجارب مثل الهند وجنوب إفريقيا.