تتحدث معه مُلهم في حديثة مُلم بكافة التفاصيل صغيرة كانت أو كبيرة،أحدث ضجة عالمية بصدى يحلق في الآفق ،عقب توليه منصب مدير عام اليونسكو كأول عربي يتقلدها،ليؤكد على الحرص الدائم نحو وضع رؤية شاملة ترتكز على ثلاث محاور رئيسية هامة ،لقيادة أهم مؤسسة عالمية .
الدكتور خالد العناني مدير عام منظمة اليونسكو ،يتحدث عن مستقبل المنظمة ويفتح أبواب وطموحات ننقلها لقراء “صدى البلد” في حواء يكشف خريطة عملة حالياً والسنوات المُقبلة،وإلى نص الحوار
-عقب توليكم مسؤولية مدير عام اليونسكو .. ماهي أهم أولويات خطة العمل الخاصة بسيادتكم ؟
تولي مسؤولية إدارة منظمة بحجم ومكانة اليونسكو هو شرف عظيم ومسؤولية كبرى في آنٍ واحد، ولذلك فإن أولوياتي في المرحلة المقبلة تقوم على رؤية شاملة ومتكاملة ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية: الإنسان، والابتكار، والتعددية.
أولاً، الاستثمار في الإنسان: من خلال تعزيز التعليم الجيد المنصف والشامل في كل مراحل العمر، وتطوير المهارات اللازمة لعصر المعرفة والذكاء الاصطناعي، مع التركيز على تمكين الشباب والمرأة باعتبارهم طاقة التغيير في مجتمعاتنا.
ثانيًا، حماية التراث المادي واللامادي، ليس فقط بوصفه ذاكرة إنسانية، بل أيضًا كركيزة للتنمية المستدامة والسلام. وسأعمل على تعزيز آليات حماية التراث في مناطق النزاع، ودعم الدول النامية لبناء قدراتها في مجال الحفظ والإدارة المستدامة للمواقع الثقافية والطبيعية.
ثالثًا، تطوير أداء المنظمة وإصلاح بنيتها بما يجعلها أكثر فاعلية وشفافية وتأثيرًا على أرض الواقع، مع التركيز على العمل الميداني والتعاون مع الدول الأعضاء لضمان أن تكون برامج اليونسكو قريبة من الناس وتستجيب لاحتياجاتهم الفعلية.
كما أضع ضمن أولوياتي تعزيز الحضور الإفريقي والعربي داخل المنظمة بما يتسق مع مبادئ التمثيل العادل لكافة المناطق الجغرافية، والتأكيد على أن صوت الجنوب يجب أن يكون مسموعًا ومؤثرًا في صياغة القرارات الدولية.
باختصار، رؤيتي هي أن تكون اليونسكو منظمة أكثر إنسانية، أكثر تفاعلاً، وأكثر تأثيرًا منظمة تُترجم القيم إلى عمل، والأفكار إلى واقع ملموس يخدم الإنسان أينما كان.
-كونكم أول عربي يتولى هذا المنصب.. ما هي رسالتكم نحو تعزيز الثقافة والتعليم والعلوم ؟
كوني أول عربي أتولى منصب المدير العام لليونسكو، أحمل مسؤولية مضاعفة، مسؤولية أن أكون صوتًا لمنطقتنا العربية والإفريقية، ورسالةً للعالم بأن الثقافة والتعليم والعلوم ليست ترفًا، بل هي الطريق الحقيقي نحو التنمية والسلام.
رسالتي هي أن نعيد الاعتبار لهذه المجالات الثلاثة كأعمدة لبناء الإنسان والمجتمع. في مجال الثقافة، أؤمن بضرورة أن تكون جسرًا للتواصل لا أداة للانقسام، وأن نحمي تراثنا المادي واللامادي، وننقله إلى الأجيال القادمة لا كماضٍ جامد، بل كمصدر فخر وإلهام للمستقبل. أما في التعليم، فهدفي أن نضمن لكل طفل وشاب في العالم الحق في تعليم جيد ومنصف يفتح له أبواب المعرفة والعمل، ويؤهله ليكون مواطنًا عالميًا مسؤولًا، قادرًا على التفكير والإبداع. وفي مجال العلوم، علينا أن نوجه البحث العلمي نحو خدمة الإنسان وحماية كوكبنا، وأن نربط بين الابتكار والتنمية المستدامة بما يضمن مستقبلًا أكثر عدلًا وإنصافًا للجميع.
رسالتي هي أن تعمل اليونسكو تحت قيادتي على أن تكون منصة للحوار والتعاون العلمي والثقافي والتربوي بين الشمال والجنوب، وأن نؤمن جميعًا بأن المعرفة لا وطن لها، وأن قوة الأمم تقاس بما تقدمه للعقل الإنساني من فكر وإبداع وسلام.
-كيف تترجم شعار "اليونسكو من أجل الشعوب" لعمل واقعي وملموس ؟
شعار "اليونسكو من أجل الشعوب" ليس مجرد عبارة رمزية أو شعار دعائي، بل هو فلسفة عمل ومبدأ توجيهي أؤمن به وأسعى لترجمته إلى واقع ملموس في كل مبادرة وبرنامج تتبناه المنظمة خلال ولايتي.
أولاً، يعني هذا الشعار أن تكون الإنسان هو محور كل سياسة وقرار، أي أن تركز اليونسكو على تلبية الاحتياجات الحقيقية للمجتمعات، وليس فقط وضع الاستراتيجيات من المكاتب. ولذلك سأعمل على تعزيز وجود اليونسكو الميداني، وتقوية مكاتبها الإقليمية في إفريقيا والعالم العربي وآسيا لتكون أقرب إلى الناس وأكثر فهمًا لواقعهم.
ثانيًا، أن تكون برامج اليونسكو عملية وقابلة للقياس والتأثير — أي أن ننتقل من “النية” إلى “النتيجة”، ومن “المشروعات النظرية” إلى برامج تحدث فرقًا في المدارس، والمجتمعات، والمواقع الثقافية.
ثالثًا، “من أجل الشعوب” تعني أيضًا من أجل الشباب والمرأة، لأن تمكينهم هو المفتاح الحقيقي لأي تقدم. سأعمل على إطلاق مبادرات إقليمية تعزز مشاركتهم في التعليم، والبحث العلمي، وريادة الأعمال الثقافية.
رابعًا، أن تعمل المنظمة على سد الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية من خلال نقل الخبرات، وبناء القدرات، وتحفيز الشراكات الدولية العادلة، بحيث تكون المعرفة متاحة للجميع لا حكرًا على أحد.
بكلمات بسيطة، شعار “اليونسكو من أجل الشعوب” يعني أن المنظمة لن تكتفي بالتنظير، بل ستنزل إلى الميدان، وتلمس حياة الناس، وتُحدث أثرًا حقيقيًا في التعليم، والثقافة، والعلوم، والاتصال.
-بصفتك وزيرا للسياحة والآثار سابقاً .. كيف تدعم ملف الحفاظ على الآثار ؟وماهي خططكم في ذلك؟
بوصفي وزيرًا سابقًا للسياحة والآثار، كانت قضية الحفاظ على التراث والآثار بالنسبة لي ليست مجرد مسؤولية وظيفية، بل قضية هوية وانتماء، لأن الآثار ليست حجارة صامتة، بل ذاكرة الشعوب وشاهدها على التاريخ الإنساني.
خلال عملي في مصر، ركزت على أن يكون الحفاظ على التراث عملًا علميًا ومجتمعيًا في آنٍ واحد - أي أن نحمي الآثار بوسائل حديثة قائمة على العلم والتكنولوجيا، وفي الوقت نفسه نُشرك الناس، وخاصة الشباب، في حمايتها والاعتزاز بها.
ومن أبرز ما تحقق في تلك المرحلة هو إعادة هيكلة منظومة إدارة المواقع الأثرية، وتحديث التشريعات لضمان حماية أفضل، فضلًا عن تطوير عشرات المتاحف وفتحها من جديد أمام الجمهور، وإطلاق مشروعات ترميم كبرى.
أما اليوم، من موقعي المرتقب كمدير عام لليونسكو، فإن رؤيتي لحماية التراث تتجاوز البعد الوطني إلى البعد الإنساني العالمي. سأعمل على:
• تعزيز قدرات الدول النامية في مجالات الحماية والترميم من خلال التدريب ونقل الخبرات.
• استخدام التكنولوجيا الرقمية لحماية وتوثيق المواقع المهددة، خاصة في مناطق النزاعات أو المعرضة لتغير المناخ.
• توسيع الشراكات الدولية مع الجامعات، والمراكز البحثية، والقطاع الخاص لدعم الابتكار في صون التراث.
• إطلاق مبادرات توعية عالمية تشجع المجتمعات المحلية على الاضطلاع بدور فعّال في حماية تراثها.
باختصار، هدفي هو أن نجعل من الحفاظ على الآثار مسؤولية جماعية عالمية، وأن تبقى مواقع التراث رسالة حية تؤكد أن التنوع الثقافي هو ثروة، وليس اختلافًا.
-ما هي خطتكم للعمل في أفريقيا ؟ثم الوطن العربي ؟
إن إفريقيا والعالم العربي ليسا بالنسبة لي مجرد مناطق جغرافية، بل هما جذوري وامتدادي الإنساني والحضاري، ولذلك تأتيان في قلب أولوياتي خلال قيادتي لمنظمة اليونسكو.
فيما يخص إفريقيا، أؤمن أن القارة تمتلك طاقات بشرية وثقافية هائلة، لكنها تحتاج إلى تمكين حقيقي من خلال التعليم، وبناء القدرات، وحماية تراثها الثقافي والطبيعي.
خطتي في هذا المجال تقوم على ثلاث ركائز أساسية:
1. الاستثمار في الإنسان الإفريقي عبر دعم التعليم الأساسي والعالي، خاصة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والتحول الرقمي، لأن التعليم هو مفتاح التنمية المستدامة.
2. تعزيز الحضور الميداني لليونسكو في القارة، من خلال دعم المكاتب الإقليمية وتكثيف البرامج التدريبية والمبادرات الثقافية المشتركة.
3. حماية التراث الإفريقي المادي واللامادي، وتقديم الدعم الفني للدول لتسجيل مواقعها ضمن قائمة التراث العالمي، مع مواجهة الأخطار الناتجة عن النزاعات أو التغير المناخي.
أما بالنسبة إلى الوطن العربي، فإن رؤيتي ترتكز على استعادة الدور الثقافي والمعرفي العربي في الساحة الدولية من خلال:
1. توسيع التعاون بين الدول العربية في مجالات التعليم والثقافة والإعلام العلمي.
2. تشجيع الابتكار والبحث العلمي، خاصة بين الشباب، ليكونوا جزءًا فاعلًا في بناء المستقبل.
3. حماية اللغة العربية بوصفها وعاءً للهوية والمعرفة، ودعم مبادرات إدماجها في التعليم الرقمي.
4. إبراز التراث العربي كجزء لا يتجزأ من التراث الإنساني، بما يسهم في تعزيز الحوار بين الثقافات، ويُظهر الصورة الحقيقية للحضارة العربية القائمة على التسامح والانفتاح.
وباختصار، أطمح إلى أن تكون إفريقيا والعالم العربي شريكين فاعلين لا متلقّيين، وأن تُسهم اليونسكو بقيادتي في تمكين شعوب المنطقتين من أن تصنع مستقبلهما بثقة، انطلاقًا من تراثهما الغني وطاقاتهما المتجددة.
-هل في خطتكم في الاستعانة بالذكاء الاصطناعي لمواجهة التطورات العلمية ؟
بالتأكيد، فالذكاء الاصطناعي لم يعد خيارًا مطروحًا للمستقبل، بل أصبح واقعًا يفرض نفسه على كل مجالات الحياة، من التعليم إلى البحث العلمي، ومن الثقافة إلى الإعلام.
ورؤيتي في هذا الإطار تنطلق من قناعة راسخة بأن التكنولوجيا يجب أن تظل في خدمة الإنسان، لا أن تحلّ محلّه.
في خطة عملي داخل اليونسكو، سيتركز التعامل مع الذكاء الاصطناعي على ثلاثة محاور رئيسية:
أولًا، تعزيز الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للذكاء الاصطناعي.
اليونسكو كانت أول منظمة أممية تعتمد "التوصية العالمية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي" عام 2021، وسأعمل على تحويل هذه المبادئ إلى التزام عملي عبر آليات متابعة ومساعدة فنية للدول، لضمان أن تكون تطبيقات الذكاء الاصطناعي شفافة، عادلة، وتحترم القيم الإنسانية.
ثانيًا، الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتطوير التعليم والبحث العلمي.
سنطلق مبادرات لتدريب المعلمين والطلاب على دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في التعليم، بما يسهم في تحسين جودة التعلم، وتوسيع فرص الوصول، وتقليل الفجوة المعرفية بين الشمال والجنوب. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدعم العلماء في تحليل البيانات الضخمة وتسريع الابتكار في مجالات العلوم والبيئة.
ثالثًا، استخدام الذكاء الاصطناعي في حماية التراث الثقافي والطبيعي.
يمكن لهذه التقنيات أن تساعد في توثيق المواقع المهددة، ورقمنة المجموعات الأثرية، والتنبؤ بالمخاطر المناخية التي تهدد التراث، ما يجعل الذكاء الاصطناعي شريكًا في جهود الحماية والحفظ.
في النهاية، رؤيتي واضحة:
نريد ذكاءً اصطناعيًا إنسانيًا، أي ذكاءً يُسهم في نشر المعرفة، وتوسيع العدالة، وتعزيز الحوار، لا في خلق فجوات جديدة.
اليونسكو، بما تملكه من مصداقية علمية وأخلاقية، هي البيت الطبيعي لقيادة هذا الحوار العالمي حول مستقبل التكنولوجيا والإنسانية معًا.