منذ آلاف السنين ومصر تعد قلب العالم القديم، ومهد واحدة من أعرق الحضارات التي تركت بصمتها في التاريخ الإنساني.
ومع تطور علم الوراثة وظهور تقنيات تحليل الحمض النووي، أصبح بالإمكان تتبع الجذور الجينية للشعوب القديمة وكشف مدى ارتباطها بالأجيال الحالية.
وفي هذا السياق، أثارت الدراسات الجينية الخاصة بالمصريين القدماء اهتمامًا واسعًا، بعد أن أظهرت نتائجها وجود تشابه لافت بين المصريين القدماء والمعاصرين، ما يفتح الباب أمام تساؤلات حول كيف احتفظ المصريون بهويتهم الوراثية رغم آلاف السنين من الغزوات والهجرات؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات، يتحدث الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية والمشرف العام الأسبق على المتحف المصري الكبير ، موضحًا من خلال دراسات علمية موثقة كيف ظل المصريون يحملون في جيناتهم إرث أجدادهم الفراعنة، محتفظين بهويتهم المتفردة التي جمعت بين الأصالة والاستمرارية.
حسين عبد البصير: جينات المصريين الحاليين امتداد مباشر للفراعنة رغم مرور آلاف السنين
قال الدكتور حسين عبد البصير تعد مصر من أكثر البيئات البشرية استقرارًا عبر العصور، وهو ما انعكس بوضوح على البنية الوراثية لسكانها، فقد كشفت الدراسات الجينية الحديثة عن استمرارية وراثية واضحة بين المصريين القدماء والمصريين المعاصرين، رغم مرور آلاف السنين وما شهدته البلاد من تحولات سياسية وهجرات متعددة.
وأوضح الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، أن دراسة مهمة نُشرت عام 2017 في مجلة Nature Communications، أجراها فريق ألماني من معهد ماكس بلانك وجامعة توبنجن، حللت الحمض النووي القديم المستخرج من مومياوات بموقع “أبو صير الملق” بمحافظة بني سويف، تعود فترتها ما بين عامي 1400 ق.م و400 ق.م، أي من الدولة الحديثة وحتى العصر البطلمي.
وأشار إلى أن نتائج الدراسة أظهرت أن المصريين القدماء كانوا أقرب وراثيًا إلى شعوب شرق البحر المتوسط والشرق الأدنى القديم (بلاد الشام والأناضول)، مع وجود مكون أفريقي محدود، وهو ما يعكس موقع مصر الجغرافي الفريد كنقطة التقاء حضارات متعددة، لا كنقطة انصهار كامل.
وأضاف عبد البصير أنه عند مقارنة تلك النتائج بجينوم المصريين الحاليين، تبين أن المصريين المعاصرين احتفظوا بنفس النمط العام للتركيب الجيني، مع ارتفاع بسيط في نسبة المكون الأفريقي التي تتراوح بين 8 و20%، موضحًا أن هذا الاختلاف يعود إلى التبادل التاريخي الطبيعي عبر وادي النيل، نتيجة التفاعل التجاري والاجتماعي مع مناطق النوبة والسودان وإفريقيا جنوب الصحراء خلال العصور التالية.
وبين أن تحليل الحمض النووي الميتوكوندري (mtDNA) أثبت أن المصريين القدماء والحديثين يشتركون في عدد كبير من السلالات الأمومية (haplogroups) مثل H وL وU وT، وهي مجموعات تعكس توازناً فريدًا بين الأصول المتوسطية والأفريقية، ما يدل على أن الهوية الوراثية المصرية كانت ولا تزال هجينة ومستقرة في آنٍ واحد.
وأكد عبد البصير أن الأبحاث الحديثة في الجامعات والمراكز العلمية المتخصصة تشير إلى أن التغيرات الجينية بين المصريين القدماء والمعاصرين طفيفة جدًا مقارنة بما حدث في شعوب أخرى عبر فترات زمنية مماثلة، ويرتبط ذلك بعوامل الاستقرار الجغرافي والزراعي في وادي النيل، حيث عاش المصريون في بيئة متصلة ومعزولة نسبيًا، الأمر الذي حافظ على استمرارية سلالاتهم.
وأوضح أن المقارنات الأنثروبولوجية بين الهياكل العظمية القديمة والمعاصرة تظهر أن الخصائص الشكلية للمصريين لم تتبدل جذريًا، إذ ظل لون البشرة البرونزي المتوسط، وبنية الوجه المستطيلة، والعينان اللوزيتان، سمات مميزة موثقة في النقوش الجدارية والتماثيل القديمة، وما زالت واضحة لدى نسبة كبيرة من سكان مصر اليوم، سواء في الدلتا أو الصعيد.
وأشار عبد البصير إلى أن الهوية الجينية للمصريين لا يمكن حصرها في تصنيف “أوروبي” أو “أفريقي” خالص، بل هي مزيج متوسطي-أفريقي-شرقي تشكل عبر آلاف السنين، وهو ما منح المصريين فرادتهم الحضارية وجعلهم حلقة وصل بين إفريقيا وآسيا وأوروبا دون أن يفقدوا مركزيتهم النيلية وجذورهم المحلية.
ولفت إلى أن موجات الغزو أو الهجرة التاريخية – من الفرس والإغريق والرومان والعرب والعثمانيين – لم تغير البنية الوراثية للسكان الأصليين بشكل كبير، نظرًا لأنها كانت محدودة العدد وذات طابع طبقي، ولم تندمج إلا جزئيًا في النسيج السكاني الواسع، ولهذا ظلت الهوية الجينية المصرية قائمة ومستقرة في معظمها، كما ظلت اللغة والعادات والتقاليد محتفظة بجوهرها الفرعوني.
وشدد عبد البصير على أن هذه النتائج تؤكد أن المصريين الحاليين هم الامتداد الطبيعي للمصريين القدماء، بيولوجيًا وثقافيًا، موضحًا أن رموز الحضارة المصرية القديمة – من الفن والدين واللغة – استمرت عبر العصور، تمامًا كما استمر الدم المصري القديم في عروق الأجيال اللاحقة، محافظًا على سماته الأساسية رغم الانفتاح والتغير.
واختتم قائلًا إن دراسة جينات المصريين ليست مجرد بحث في التاريخ الطبيعي للإنسان، بل هي نافذة على استمرارية الهوية المصرية عبر الزمن، هوية متجذرة في الأرض والنيل، تشهد على حضارة لم تنقطع يومًا، بل تجددت وأعادت صياغة نفسها في كل عصر من عصورها الطويلة.