قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

منال الشرقاوي تكتب: «كارثة طبيعية»

منال الشرقاوي
منال الشرقاوي

يقدم كارثة طبيعية حكاية تبدو في ظاهرها بسيطة، لكن الاقتراب منها يكشف طبقات كثيرة—مثل تلك الكتب التي تبدأ بضحكة وتنتهي بفلسفة تُجهد الروح. الحمل المفاجئ يتحول إلى الشرارة التي تشعل كل شيء؛ نقطة صغيرة تصبح دوامة تجرف الأسرة ومعها المشاهد. وهنا تتبدى براعة المسلسل، حدث يبدو تفصيلاً عابرًا يصبح، وفقًا لما يسميه رولان بارت «الوظيفة الإيجازية الكبرى»، لحظة يُعاد عندها ترتيب السرد؛ يتخلخل نظام الأسرة. وكل ذلك بنبرة واقعية هادئة تتيح للمتلقي أن يتابع الفوضى بابتسامة قبل أن يدرك أنها ليست مجرد مفارقة كوميدية.
يبدأ المسلسل من الحالة الهادئة التي يعرفها كل زوجين في عامهما الأول، بيت صغير، ميزانية بالكاد تكفي، وأمل معلق على غد أفضل. ثم تأتي الولادة -سبعة أطفال دفعة واحدة-، ليتحول ما يبدو «مزحة سوداء» إلى نقطة انكسار واضحة. يشبه الأمر ما تتحدث عنه نماذج السرد الحديثة، بطل يبدأ من وضع مألوف، ثم يتلقى الضربة التي تغير مساره فيجد نفسه في معركة غير متكافئة مع عالم لم يعد ودودًا كما تخيله.
يكتب المؤلف أحمد عاطف مسلسله بروح تمزج الحدة بالكوميديا، وبحس من يعرف أن النكتة المؤلمة قد تقول الحقيقة أكثر من أي خطاب مباشر، فيضع الحدث المركزي -ولادة سبعة توائم- بوصفه محركًا سرديًا يكشف تصدعات المجتمع من الداخل، من البيروقراطية إلى ضغط الإعلام والفقر المتجذر. شخصياته مكتوبة بوعي يجعلها أصوات اجتماعية تتحرك داخل عالم درامي مضطرب.
أما المخرج حسام حامد، فيدخل المسلسل من بوابة بصرية واضحة، مستثمرًا خبرته في الإعلانات والأفلام القصيرة ليصنع عالمًا يخنق شخصياته بذكاء محسوب. يظهر أثر هذه الرؤية في الطريقة التي صور بها الشقة وجعلها شريكًا أساسيًا في السرد؛ فالكادرات داخل البيت تكاد تكون دائمًا متوسطة أو قريبة، محصورة داخل مساحة ضيقة لا تسمح للشخصيات بالتنفس. الإضاءة الدافئة المائلة إلى الاصفرار تزيد الإحساس بالانغلاق، بينما تُظهر زحام الأغراض -السرير، الأطفال، الملابس، الكراسي-، كطبقات إضافية من الضغط. هذا التكوين يجعل محمد يبدو أصغر من حجمه الحقيقي داخل الكادر، محاصرًا داخل عالم يتكدس فوقه، فينعكس الاختناق النفسي في صورة بصرية خالصة، لا تحتاج إلى جملة واحدة لتقول إن البطل غارق في أعبائه حتى آخر نفس.
ولا يقتصر هذا الحس البصري على الشقة وحدها؛ ففي كارثة طبيعية، لا تقف الأماكن خلف الأحداث، فنجدها تمشي معها كتوأم ثامن غير مرئي. الشركة، المستشفى، والاستوديو التلفزيوني… كلها تتحول من حدود خارجية إلى قوى تُسير حياة الأسرة، وتضغط عليها، وتكشف هشاشتها. إنها سيميائيات مكان تحكي القصة بطريقتها الخاصة.
وعلى مستوى الشخصيات، لا يقدم كارثة طبيعية أدوارًا تقليدية بقدر ما يقدم أصواتًا صغيرة تضيع وسط عالم أكبر منها.
محمد (محمد سلام) بطل من النوع الذي يحاول فقط ألا يسقط؛ نموذج واضح لـ«الذكورة المأزومة»، رجل يصر على دوره كمعيل بينما يعرف في داخله أن الواقع أقوى منه. قيمته معلقة بقدرته على الإنفاق؛ فإذا تعثرت هذه القدرة، انكسر معها إحساسه بذاته.
أما الزوجة شروق (جهاد حسام الدين)، فالإعلام يختزلها في لقب "أم السبعة"، ويتعامل معها كجسد يؤدي وظيفة لا كإنسانة لها حياة وحدود. واللافت أن المسلسل يتعمد -بشكل منطقي ومدروس- تغييب وجود أم لها أو شقيقات من المشهد؛ فلا نرى سندًا عائليًا يخفف عنها، ولا ذراعًا أنثويًا تمتد لمساعدتها، وذلك لكون أمها قد توفيت وهي صغيرة ولأنها بلا شقيقات في الأصل -اختيار يجعل وحدتها قدرًا لا ظرفًا، ويضاعف من شعورها بالتيه داخل هذا العبء المفاجئ. وهكذا تُصارع مسؤولية تفوق طاقتها بلا شبكة دعم حقيقية، فيتحول الضغط إلى جزء أصيل من تكوينها الدرامي.
ويقدم كمال أبو رية في كارثة طبيعية واحدًا من أكثر أدواره تركيبًا في السنوات الأخيرة؛ فهو يبدأ من منطقة الكوميديا الخفيفة، قبل أن يكشف تدريجيًا عن طبقة درامية عميقة. يجسد شخصية الأب الذي يبدو لأول وهلة مطمئنًا وممسكًا بزمام الأمور، ثم نكتشف عبر مشاهد لاحقة -ومنها اعترافه لابنته بضيق حالته المادية واعتماده على معاش محدود-، أنه يعيش مأزقه الخاص، لكنه يختار إخفاءه حفاظًا على صورة «الأب القادر».
كما يقدم حمزة العيلي فى كارثة طبيعية دور “صديق البطل” الذي يعمل كمحرك بديل يمنح الحكاية بعدًا استثنائيًا؛ فهو يمثل الصوت الذي يقول ما يخشاه المعيل. بخفته في التمثيل وبنقطة الواقعية التي يمنحها لدوره، يبدو العيلي كنسخة من «الضمير الشعبي» المؤجل؛ هو الحضور الذي يثبت أن البطل ليس وحده من يحمل المعاناة، وأن الشبكة البشرية المحيطة به تحكي أيضًا قصة.
من اللافت في «كارثة طبيعية» أن بعض الأدوار ذهبت إلى ممثلين من قسم المسرح بكلية الآداب – جامعة الإسكندرية، وهو اختيار يحسب للمخرج حسام حامد، الذي فضل الاستعانة بأصوات أكاديمية شابة تجمع بين الموهبة الخام والتكوين العلمي المنهجي؛ وهي تركيبة نادرًا ما تتوافر في تجارب من هذا النوع. 
ومن بين هذه الوجوه الشابة تبرز هبة مكاوي التي تقدم حضورًا مدهشًا؛ أداء هادئ لكنه مليء بالتفاصيل الصغيرة. هبة تمتلك تلك القدرة على جعل المشهد بسيطًا وقريبًا، وكأن الكاميرا ضبطت إيقاعها على نبضها هي.
أما ساندي مراد، فتمتلك حسا فطريًا في توقيت الجملة ورد فعلها، فتقدم حضورًا طبيعيًا يتماهى مع العالم الدرامي من دون افتعال. ساندي من النوع الذي يضيف للمشهد حتى في لحظات الصمت.
ويقدم عادل سعيد نموذجًا واضحًا للممثل الذي يفهم قواعد الأداء. يمتلك حضورًا جسديًا واضحًا، وتعامله مع التفاصيل -طريقة الوقوف، نبرة الصوت، وتوزيع الطاقة-، يعكس وعيًا أكاديميًا يظهر حتى في اللقطات القصيرة. عادل يملأ الكادر بثقة من دون أن يطغى عليه.
بهذه الوجوه الشابة، يراهن المسلسل على جيل جديد من الأكاديميين القادرين على مزج الموهبة بـأخلاقيات الصنعة، وعلى تقديم أداء صادق يضيف إلى العمل.
لعل قيمة «كارثة طبيعية» أنه لا يبالغ في تصوير الواقع… فقط يرفعه قليلًا ليُرينا ما كنا نراه طوال الوقت دون أن ننتبه إليه.
وأنتم تشاهدونه، لا تخافوا الضحكة العالية؛ فالضحك في هذا المسلسل يختلط بصرخة كانت متخفية، ووجدت طريقها إلى العلن أخيرًا.