قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

محمد صابر عرب في ذمة التاريخ.. وداعًا لوجهٍ هادئ من وجوه الثقافة الرسمية

محمد صابر عرب
محمد صابر عرب

لم يكن خبر رحيل الدكتور محمد صابر عرب، وزير الثقافة الأسبق، مجرد سطرٍ عابر في شريط الأخبار، بل هزّة صامتة في وجدان الوسط الثقافي المصري والعربي. فالرجل الذي عَبَرَ من قاعات البحث الأكاديمي إلى دهاليز الإدارة الثقافية، ومن رفوف الكتب إلى مكاتب القرار، ترك خلفه سيرةً كثيفة الحضور، متشابكة الأثر، ومحلَّ إجماعٍ نادر على الاحترام، حتى بين المختلفين معه، ومع إعلان وفاته أمس، تسابقت المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية إلى نعيه، في مشهدٍ كشف عن حجم المكانة التي احتلها، وعن فراغٍ يصعب ملؤه في لحظةٍ تتراجع فيها قيمة المثقف الإداري، ويغيب فيها صوت العارف بالثقافة من داخل السلطة.

منذ الساعات الأولى لانتشار الخبر، أصدرت وزارة الثقافة بيان نعي رسمي، أكدت فيه أن الراحل كان « مؤرخًا متفردًا ومعلمًا لأجيال، ومفكرًا من طراز فريد، ورجلًا آمن بدور الثقافة كقوة ناعمة قادرة على بناء الوعي وصون الهوية»، مشيرة إلى دوره البارز في خدمة الثقافة المصرية والعربية، سواء من موقعه الأكاديمي، أو خلال توليه حقيبة الثقافة في مرحلةٍ شديدة الاضطراب من تاريخ البلاد.
لم يكن البيان تقليديًا في لغته، بل حمل اعترافًا ضمنيًا بثقل المرحلة التي تولى فيها عرب المسؤولية، وبما تطلبته من حكمة وهدوء وقدرة على التوازن بين ضرورات الدولة وحرية الثقافة.

الهيئات التابعة لوزارة الثقافة، من المجلس الأعلى للثقافة، والهيئة المصرية العامة للكتاب، وقطاع الفنون التشكيلية، ودار الكتب والوثائق القومية، أصدرت بيانات متتابعة، استحضرت فيها سيرة الرجل بوصفه مثقفًا موسوعيًا، وأستاذًا جامعيًا مخلصًا، ووزيرًا حاول – قدر استطاعته – أن يُبقي على مسافةٍ آمنة بين الثقافة وصراعات السياسة، وتوقفت بعض البيانات عند إسهاماته في دعم النشر، وحماية المؤسسات الثقافية من التفكك في لحظةٍ كانت فيها الثقافة نفسها موضع تشكيك واستهداف.

لم يقتصر النعي على المؤسسات الرسمية، فقد بادرت مؤسسات ثقافية أهلية، ودور نشر مستقلة، واتحادات وروابط ثقافية، إلى إصدار بيانات نعي حملت نبرةً أكثر حميمية، وأقرب إلى الشهادة الإنسانية، اتحاد كتاب مصر وصف الراحل بأنه «مثقف دولة بالمعنى النبيل للكلمة»، مشددًا على أنه لم يتعامل مع الثقافة كزينةٍ للسلطة، بل كركيزة من ركائز الوعي الوطني، فيما رأت بعض دور النشر المستقلة أن عرب كان من القلائل الذين فهموا حساسية العلاقة بين الدولة والمثقفين، ولم يسعَ إلى ترويض المشهد الثقافي أو إخضاعه، حتى في أصعب الظروف.

أما الجامعات المصرية، التي شهدت سنواته الأطول أستاذًا وباحثًا، فقد نعت فيه العالم الجاد، والباحث الصبور، الذي أسهم في ترسيخ دراسات الأدب المقارن والنقد الثقافي، وفتح آفاقًا جديدة أمام أجيالٍ من الطلاب، أصدرت بيانات أكدت أن رحيله خسارة للبحث العلمي بقدر ما هو خسارة للإدارة الثقافية، وأن تأثيره الأكاديمي سيظل حاضرًا في قاعات الدرس، وفي الكتب التي ما زالت تُدرَّس وتُناقَش.

اللافت في موجة النعي الواسعة، أنها لم تُجمِّل سيرة الرجل بقدر ما أعادت قراءتها بهدوء، كثير من البيانات ألمح – دون تصريح – إلى أن محمد صابر عرب كان وزيرًا في زمنٍ استثنائي، تولى المسؤولية أكثر من مرة في فترات انتقالية حرجة، حين كانت الثقافة مطالبة بأن تصمد، لا أن تزدهر، ورغم الانتقادات التي وُجِّهت إليه آنذاك، فإن غالبية الأصوات اليوم تتفق على أنه أدّى ما استطاع، وأنه لم يُفرّط في جوهر الفكرة الثقافية، حتى وهو محاصر بتناقضات السياسة وضغوط الشارع.

المثقفون أنفسهم، عبر مقالاتهم ومنشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، شاركوا في كتابة نعي موازٍ، أكثر صدقًا وحرية. بعضهم استعاد مواقفه الإنسانية، وهدوءه في الحوار، واستعداده للاستماع حتى لأشد منتقديه، آخرون توقفوا عند كتبه ودراساته، معتبرين أن الرجل سيبقى حاضرًا بنتاجه الفكري، حتى لو غاب جسده، ولم تخلُ هذه الكتابات من نبرة حزنٍ على زمنٍ كان فيه وزير الثقافة مثقفًا حقيقيًا، لا مجرد مدير ملفات أو واجهة بروتوكولية.

إن نعي الدكتور محمد صابر عرب لم يكن مجرد واجبٍ بروتوكولي أدّته المؤسسات، بل بدا كأنه لحظة مراجعة جماعية لعلاقة الثقافة بالدولة، ولدور المثقف في زمن الأزمات، فقد كشف هذا الإجماع النادر على تقديره، أن المشهد الثقافي – رغم انقساماته – لا يزال قادرًا على الاعتراف بمن خدمه بإخلاص، حتى وإن اختلف معه، كما أعاد إلى الواجهة سؤالًا مؤلمًا: كم نملك اليوم من شخصيات تجمع بين العمق المعرفي، والنزاهة الأخلاقية، والقدرة على الإدارة؟

برحيل محمد صابر عرب، تطوي الثقافة المصرية صفحةً من صفحاتها الثقيلة والمعقدة، صفحة كُتبت بحبر الأكاديمية، وضغط السياسة، وقلق المرحلة الانتقالية، لكنه رحيل لا يُغلق الدفتر تمامًا، فآثاره باقية في مؤسساتٍ حاول أن يحميها، وفي طلابٍ تتلمذوا على يديه، وفي كتبٍ ستظل شاهدة على مشروعٍ فكري آمن بأن الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة وجود، وبين نعيٍ رسمي وآخر أهلي، تتشكل صورة رجلٍ رحل بهدوء، كما عاش.. مثقفًا يؤدي واجبه، دون ضجيج.