يأتي لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المقرر اليوم الاثنين، في توقيت إقليمي بالغ الحساسية، تتداخل فيه مسارات الحرب والتهدئة، وتتراكم فيه أزمات لم تُحسم بعد، وعلى رأسها ملف غزة. الزيارة، وهي الخامسة لنتنياهو إلى الولايات المتحدة منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض عام 2025، لا تعكس بالضرورة عمق التفاهم بين الطرفين بقدر ما تكشف عن حجم التباينات المؤجلة، ومحاولات كل طرف إدارة الوقت بدل حسم الملفات.
وهو ما يحلينا الي تساولات عدة حول ما الذي يريده ترامب وما الذي يسعي اليه نتنياهو في ظل سعيه الي تكوين تحالفات وتحركات في المنطقة تخدم نفوذه علي حساب إضعاف قوة اساسية بالمنطقة علي غرار اعترافه بأرض الصومال بشكل احادي ؟
في صدارة الاجندة يقف ملف غزة، لا باعتباره أزمة إنسانية فقط، بل بوصفه عقدة سياسية وأمنية تهدد بنسف أي حديث عن “صفقة أوسع” أو إعادة هندسة الإقليم. فخلافًا للرواية الإسرائيلية، فإن مسألة الجثامين جرى توظيفها كذريعة للمماطلة منذ البداية. كان هناك إجماع لدى الوسطاء على أن عدد الجثامين التي يمكن الوصول إليها لن يتجاوز 20، مع ترجيحات واضحة بأن ما بين 7 إلى 9 ليس من الممكن التأكد من مصيرهم. وبالتالي، فإن التوقف عند جثمان واحد وهو جثمان ران جويلي لا يمكن قراءته إلا باعتباره محاولة تعطيل متعمدة، لا أزمة طارئة أو مفاجأة ميدانية.
هذا التعطيل يتقاطع مع واقع أكثر خطورة فبعد يوم واحد فقط من توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، بدات الخروقات إذ استشهد 410 فلسطينيين وأصيب نحو 1100 آخرين، في مؤشر واضح على أن إسرائيل لم تتعامل مع الاتفاق باعتباره التزامًا سياسيًا، بل كإطار قابل للخرق. بل إن إسرائيل لم تنفذ سوى نحو 20% فقط من استحقاقات المرحلة الأولى، ولم تلتزم بإدخال المساعدات إلا بنحو ٤١ ٪ أو الانسحاب من قطاع غزة، والتحرك من “الخط الأصفر” إلى “الخط الأحمر”، وبالتالي لا تزال تسيطر فعليًا على نحو 58% من مساحة القطاع.
الإشكالية الأكبر التي تصدّرتها إسرائيل في هذا السياق هي مسألة نزع سلاح حماس. ورغم وجود إجماع داخل الحكومة الإسرائيلية والمعارضة على أهمية هذا الملف، إلا أن طرحه بهذه الطريقة، وفي توقيت مبكر عن ذلك في تقديري يكشف عن نية خلق حالة فوضى داخل القطاع، وليس تمهيد مرحلة سياسية مستقرة. ويتعزز هذا الاستنتاج في ضوء تحركات موازية لتسليح ميليشيات محلية مرتبطة بجيش الاحتلال، بما يعيد إنتاج نموذج التفكيك الأمني بدلاً من بناء مسار مستدام.
من هنا، يبدو أن نتنياهو أمام خيارين: إما الإبقاء على المرحلة الأولى من الاتفاق دون الانتقال إلى الثانية، بما يضمن له استمرار السيطرة الميدانية مع التزامات شكلية، أو الذهاب إلى تقويض الاتفاق بالكامل، وتحميل الطرف الآخر مسؤولية الانهيار. هذا السلوك لا ينفصل عن محاولاته الدائمة كسب الوقت، سواء داخليًا في ظل أزمته السياسية والقضائية، أو إقليميًا في ظل تعقيد المشهد.
على الجانب الأمريكي، تبدو فرضية الضغط على إسرائيل قائمة، لكنها غير ناجزة. فعدد زيارات نتنياهو المتكررة إلى واشنطن، دون تحقيق اختراق حقيقي، يشير إلى أن هذه اللقاءات غالبًا ما تنتهي بنتائج صفرية. ومع ذلك، فإن فريق ترامب ينظر بقلق إلى محاولات نتنياهو تقويض الاتفاق، خاصة في ظل رفضه البدء بتنفيذ المرحلة الثانية رغم استيفاء إسرائيل لجزء كبير من مطالبها، من أسرى وجثامين.
ما يريده نتنياهو يمكن اختصاره في ثلاثة أهداف استراتيجية: أولها، الإبقاء على الدعم الأمريكي الكامل في مواجهة إيران، وثانيها ضمان الغطاء الأمريكي في إدارة حرب غزة دون قيود حقيقية، وثالثها تأمين دعم أمريكي في ملف لبنان، بما في ذلك مواجهة حزب الله ومنع إعادة بناء قدراته. في المقابل، لا يبدو أن إدارة ترامب مستعدة لمنح تفويض مفتوح، لكنها أيضًا لا تريد انفجارًا إقليميًا واسعًا يعرقل أجندتها الاقتصادية والسياسية.
بالتالي فاللقاء، إذن، ليس مخصصًا لحل جذري للأزمات، بل لإذابة التباينات وإدارة الخلافات. فملفات مثل نزع سلاح حماس، تشكيل قوة دولية للاستقرار، أو إنشاء لجنة تكنوقراط لإدارة غزة، جميعها قضايا شديدة التعقيد، من غير المرجح أن يحسمها هذا اللقاء. خاصة أن قرار مجلس الأمن 2803 حول قوة الاستقرار الدولية يعكس تضاربًا في الأدوار، حيث تفضل الدول أن يقتصر دورها على حفظ الأمن، على غرار اليونيفيل، دون الانخراط في نزع السلاح.
في الوقت ذاته، لا يمكن فصل هذا اللقاء عن سياقه الأوسع: انتخابات نصفية قادمة في الكونغرس الأمريكي، وانتخابات إسرائيلية متوقعة في 2026، ومساعٍ من ترامب لعقد “مجلس السلام” على هامش اجتماعات دافوس. هذه الحسابات الانتخابية تدفع الطرفين إلى إبقاء الاتفاق دون أفق زمني واضح، بما يسمح بالمناورة وتفادي الالتزامات الملزمة.
الأهم أن هذا اللقاء سيكشف ما إذا كانت الإدارة الأمريكية تميل فعليًا إلى تجاوز قضية غزة وتذويبها وسط ملفات إقليمية أخرى، لصالح تعظيم الدور الإسرائيلي، أم أنها تسعى ولو نسبيًا إلى مسار تهدئة حقيقي. في ظل إقامة 95 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية، وتحركات إسرائيلية ممنهجة لفك الارتباط بين غزة والضفة، تبدو الحاجة ملحّة لخروج رسالة فلسطينية رسمية واضحة، تعيد تعريف الواقع وتمنع تهميش القضية وسط خرائط جديدة يجري فرضها بالقوة.
ختاما لقاء ترامب ونتنياهو هو اختبار لإرادة الطرفين: هل هو محطة لإدارة أزمة مؤجلة، أم مقدمة لمسار يعيد إنتاج الهيمنة بذات الأدوات، لكن تحت غطاء “السلام”؟