قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

قصة قصيرة : بسكويت وعسل أسود


قبل ساعة من موعدها عادت لميس. في الصالة التي لم تزل معتمة وضعت شالها الأخضر والبلوفر الصوفي وفتحت أزرار قميصها وقبل أن تهم بخلع قميصها في الطرقة المفضية إلى حجرة النوم باغتتها رعشة برد فضمت طرفي القميص على جسدها وخطفت خطوتين نحو الغرفة التي لم تفرط في رائحة نوم الليلة الفائتة بعد.
خلعت قميصها ورمته على السرير فأخطأته الحافة فوقع. رؤيتها القميص المكوم بجانب السرير فوق فردة البانتوفلى الصوف أعادت إليها الإحساس بأن الحياة لن تكون على نحو أفضل في يوم من الأيام، ذلك الإحساس الذي جاهدت طوال ليلتين ويوم للتخلص منه. تشممت رائحة إبطيها، ورغم طيب الرائحة فقد قررت أن تغتسل. فكرت أن الاغتسال بعد ليلتين مجهدتين يمكن أن يزيل ذلك الإحساس. فكت سوستة تنورتها وتركتها تنزلق على فخذيها المكتنزين بهدوء فانتابتها رعشة حسية كما لو أن هناك من يراقب عريها. استلذت رعشتها ففكت ربطة شعرها المصبوغ حديثا. ظلت واقفة بملابسها الداخلية للحظات ولم تفكر في البرودة التي تضرب أركانها، فقد كان دفء ما، يأتى من مكان ما، ربما من الذاكرة، يلف جسدها.
التفتت نحو النافذة لتطمئن أنها مغلقة تماما وأن شخصا ما لن يمكنه رؤيتها. التفتت نحو المرآة المثبتة في دولابها فأمكنها رؤية جسدها الذي لم تسعدها رؤيته فقد بدا مرهقا أكثر مما تحتمل امرأة وحيدة، ومعلقة، ولم تكمل الأربعين بعد. كان جسدها قد ترهل في منطقتى الثديين والمؤخرة على الرغم من تماسك ساقيها، حتى أن أحدا لن يصدق أن مثل هذين الساقين البديعين ينتميان إلى هذه المؤخرة الممتلئة.
عاودها الإحساس بالبرودة فجذبت جلابيتها الصوف من على السرير وألقتها على جسدها بسرعة من اكتشف عريه للتو. طفقت خارجة من الحجرة بعد أن قررت أنه لا داع للاغتسال الآن. فبالنسبة لامرأة تبيت ليلتها وحيدة في بيت بارد كان لا يزال أمامها أكثر من ست ساعات قبل أن تأوى للنوم وكان عليها أن تشغلهم ببطء حتى لا تنفد حيلها مبكرا.
في المطبخ كانت صينية الإفطار ما تزال تحمل بقايا فطورها. ألقت بقايا الجبنة البيضاء في وعاء القمامة بعد أن تبينت مدى حموضتها رغم برودة الجو وألقت الطبق البلاستيكي في الحوض. أفرغت الصينية من بقايا الخبز الجاف، كان نصف رغيف بحاله قد تصلب فلم يعد حتى صالحا لإطعام فرخة. وضعت الصينية في مكانها المخصص لها بعد أن مسحتها بفوطة المطبخ. فتحت الثلاجة ثم أغلقتها. سحبت الصينية مرة أخرى ووضعتها في الحوض. فتحت الحنفية. فتحت الثلاجة ثم أغلقتها كما لو أن الضوء المنبعث منها في المطبخ المعتم يسبب لها بهجة ما. فتحت الفريزر وسحبت كيس ملوخية مجمدة ووضعته في حلة صغيرة. مدت أصابعها للتأكد من أن المياه قد سخنت. أمسكت الصينية وليفة الغسيل وضغطت على مكبس وعاء الصابون لكنها اكتشفت أن الوعاء خال. تركت الصينية والليفة وغسلت يديها بالماء الذي أصبح دافئا. نطرت يديها من المياه ثم مسحتهما في جلابيتها. فتحت الخزانة أسفل الحوض وأخرجت كيس الصابون السائل. دارت حول نفسها دورتين بحثا عن المقص، وفي المرة الثالثة وجدته فابتسمت. التقطت المقص، وفي اللحظة نفسها بدأت في دندنة أغنية قديمة لفايزة أحمد، وشعرت أن الحياة ليست بالسوء الذي كانت تظنه. قصت طرف الكيس بحذر وفتحت درجا ووضعت المقص فيه. أمسكت بالكيس في يدها اليسرى ووضعت وعاء الصابون أسفل إبطها الأيسر وأدارت مكبسه بيدها اليمنى. أزاحت الصينية والطبق البلاستيكي وكوبين زجاجيين كانا في الحوض ووضعت الوعاء بجوارهم. صبت الصابون السائل في الوعاء ببطء وحذر، وكانت تدندن ما تزال. ثنت طرف الكيس ثنيتين وحبكته جيدا ووضعته في مكانه، وكانت تدندن ما تزال. أغلقت وعاء الصابون ووضعته في مكانه على رخامة الحوض. أمسكت الليفة بيد وضغطت على مكبس الوعاء باليد الأخرى فانزلق الصابون على الليفة بيسر، فأبهجها ذلك فرفعت صوتها بالغناء، "دنيا جديدة علينا سعيدة". مدت يدها أسفل المياه ثم سحبتها بسرعة فقد كانت المياه قد سخنت للغاية. قبَّلت يدها التي شعرت بأنها قد احترقت تماما، وباليد الأخرى ضبطت وضع الحنفية بعد أن توقفت عن الدندنة. انتظرت لحظات حتى تطمئن على أن المياه لم تعد لاهبة. وضعت الليفة جانبا وغسلت يديها مرة أخرى، هذه المرة مدت يدها بحذر. نطرت يديها من المياه مجددا ثم مسحتهما في جلابيتها الصوف. فتحت درجا وأخرجت منه أنبوبا صغيرا. أمسكته باليد التي لم تحترق وفتحت غطاءه باليد المحترقة فأوجعتها. قبَّلتها مرة ثانية. وضعت الغطاء على الرخامة. ضغطت بحذر على الأنبوب فاندفع المرهم الأبيض خارجا كدودة بطيئة. اكتفت بقطعة في حجم حبة فاصولياء ثم أغلقت الأنبوب قبل أن تستطيل الدودة فتصبح ثعبانا. فتحت الدرج وأعادت الأنبوب مكانه. دعكت المرهم مكان الوجع فأشعرتها نعومته ببرودة. فكرت أنه من غير الملائم الآن أن تغسل الصينية والطبق والكوبين رغم أن المياه كانت ما تزال مفتوحة. أغلقت الحنفية باليد التي لم تحترق، وبها أيضا أزاحت الطبق الذي سد الحوض فسمح للمياه أن تملأ نصفه. على باب المطبخ تذكرت كيس الملوخية المجمدة في الحلة. عادت فوضعت الكيس بالحلة في الثلاجة وخرجت.
ألقت بجسدها على الكنبة في الصالة. بيدها التي لم تحترق مسحت على صوفة الكنبة فتأكد لها أن الصوفة قد نحلت وأن لونها قد تغيّر. فكرت أن عليها تدبير ثمن كنبة جديدة، ولما فكرت أنها لم تنته من أقساط التليفزيون الجديد بعد فكرت أن تسأل عم لطيف المنجد إذا كان في إمكانه تجديدها، وبكم. بالتفكير في أقساط التليفزيون تذكرته. بحثت عن الريموت بعينيها فوجدته على الأرض، بجوار طرف الكنبة البعيد. لم يمكنها مد جذعها لالتقاطه ذلك أن آلام الظهر قد بدأت في معاودتها بسبب اللف على المحلات. مدت ساقيها والتقطت الريموت بين قدميها ونطرته نطرة قربته منها. التقطته وفتحت التليفزيون، قلبت في قنواته كلها ولم تجد شيئا مبهجا. معظم القنوات كانت مزدحمة بالإعلانات، وباقيها إما تبث أفلاما أو مسلسلات كلها سخيفة. قلبت في قنوات الأغانى فلم يرقها شئ. قلبت مرة أخرى حتى وجدت برنامجا دينيا يقدمه شيخ طويل اللحية واللسان فشلت عباءته البيضاء في إقناعها بأنه رجل دين، كان يصرخ في نهاية كل جملة كما لو أنه يتلو نبوءات من الجحيم. أغلقت صوت التليفزيون، فبدا الشيخ مضحكا بحركاته المبالغ فيها واهتزازات لحيته. ثنت جذعها على طرف الكنبة وسحبت ساقيها على الطرف الآخر ومددت على الكنبة. ظلت تحدق في السقف للحظات متجاهلة الشيخ مستمتعة بالضوء الخارج من الشاشة والذي لوّن عتمة الصالة بألوان مبهجة. حدقت أيضا في اللمبة النيون التي إسود طرفاها. في بقعة الرطوبة أسفل مطبخ الجيران. فكرت أن الرطوبة قد تمتد لأنبوب الكهرباء وفي مدى خطورة ذلك. فكرت أن تتصل بعبد الحميد الكهربائي ليأتى لمعاينة هذا الوضع. فكرت أن عبد الحميد الكهربائي عنده حلول دائما لكل شيء. تذكرت حين ركّب لها اللمبات الموفرة في المطبخ والصالة وحجرة النوم والحمام. تذكرت أنها لم تدفع فاتورة الكهرباء في الشهر الماضي وأن عليها ألا تسرف في المصاريف لأنه سيكون عليها أن تدفع فاتورتين بدلا من واحدة. رفعت ساقها اليمنى فوق ركبتها اليسرى وسحبت قدمها لترى إن كانت أظافر قدميها تحتاج للقص أم لا. وعلى الرغم من أنها لم تكن قد استطالت بعد فإنها نزعت نفسها من الكنبة وجاءت بعلبة صغيرة تحتفظ فيها بالقصافة ومبرد الأظافر وبكرة خيط وبمقص صغير جدا. جلست على الكنبة واضعة العلبة بين فخذيها. أخرجت القصافة وقد نست أن يدها قد احترقت منذ لحظات. وضعت العلبة جانبا. رفعت ساقها اليمنى فانزلق طرف الجلابية عن ساقها الأخرى. مسحت على الجزء العارى وأسعدتها نعومته. أغلقت التليفزيون وبدأت تدندن أغنيتها مرة أخرى. قصت أظافر قدمها اليمنى. أنزلتها. رفعت القدم الأخرى. فانزلق طرف الجلابية عن الساق الأخرى. مسحت عليها فازدادت سعادتها. قصت أظافر القدم اليسرى وقد رفعت من صوتها في الغناء قليلا.. "مهما تعبنا نلاقي قلوبنا واحشها تحب مع العاشقين". انتابتها انتعاشة مفاجئة. قامت من جلستها بنشاط بينما كانت تغنى ما تزال. دخلت المطبخ. فتحت الثلاجة. أخرجت الحلة وقد ساحت الملوخية داخل الكيس قليلا. وضعتها على الرخامة. فتحت المياه مرة أخرى متأكدة أن وضع الحنفية في المكان الصحيح. انتظرت لحظات حتى تدفأت المياه. مدت أطراف أصابعها التي كانت قد احترقت. تأكدت أن المياه لم تسخن بدرجة كبيرة. أمسكت الليفة وضغطت على وعاء الصابون فانزلق السائل بيسر، وكانت تغنى ما تزال.. "ودع ماضي سرق على الفاضي شهور وسنين من عمر حزين". دعكت الطبق والكوبين والصينية جيدا ثم وضعت الليفة في مكانها وبدأت في غسل الطبق والكوبين والصينية بالماء، وكانت تغنى ما تزال. وضعت كل شيء في مكانه المخصص. نطرت يديها من المياه ومسحتهما في جلابيتها الصوف. فكّت كيس الملوخية وأفرغته في الحلة ووضعتها على البوتاجاز ورمت الكيس الخالي في وعاء القمامة، وكانت تغنى ما تزال. أشعلت البوتاجاز ووضعت الحلة على العين الصغيرة. فتحت الفريزر وأخرجت رغيفين مجمدين ووضعتهما على النملية. نظرت حولها كما لو كانت تطمئن على شيء ما. انتظرت لحظات. أحست ببرودة. تحسست جلابيتها وكانت قد ابتلت فقررت أن تغير الجلابية وتلبس جلابية نظيفة، وكانت تغنى ما تزال. فكرت أنه إذا كان عليها أن تغير جلابيتها بجلابية نظيفة فعليها أن تغتسل بالمرة. خرجت من المطبخ باتجاه الحمام وكانت تغنى ما تزال.. "صوت ينادينا من ليالينا يزود عالعشاق اتنين".
دخلت الحمام بعد أن أشعلت الضوء. فتحت حنفية المياه في البانيو وضبطت وضعه. انتظرت قليلا ثم مدت يدها بحذر لتطمئن على درجة سخونة المياه. لاحظت أن البانيو يحتاج لتنظيف فقررت تأجيل اغتسالها لحين تنظيفه وتوقفت عن الغناء. من أسفل الحوض جاءت بليفة مخصصة لدعك البانيو والحوض. رمتها في البانيو وراقبت المياه وهي تندلق فوقها. خرجت باتجاه المطبخ لتحضر كيس الصابون. نطرت يديها من المياه في الطريق ثم مسحتهما في جلابيتها الصوف المبتلة. في المطبخ كانت رائحة الملوخية قد فاحت بعطر حميمي جميل. شعرت بالجوع فجأة فقررت أن تؤجل اغتسالها لما بعد الغداء. خفّضت اللهب أسفل الحلة حتى لا تحترق الملوخية. جست رغيفي الخبز فوجدتهما مجمدين لا يزالا. خرجت من المطبخ.
على كنبة الصالة جلست مجددا. تجاهلت صوت المياه في الحمام ذلك أن شعورها المفاجئ بالجوع قد جعلها كسولة. فتحت التليفزيون، وكان الشيخ ما يزال يهز لحيته الطويلة بعنف ويصرخ بلا صوت. مدت يديها وجاءت بالتليفون في حجرها المبتل. فكرت في الاتصال بأبيها ولكنها خشيت أن ترد عليها امرأته التي لا تحبها لله في لله. منذ تزوجها أبوها بعد موت أمها وهما لا تستلطفان بعضهما البعض. حتى أنها عجّلت بزواجها من ماجد لتتخلص من العيش أسفل سقف يضمها مع امرأة أب متطرفة في غيرتها ونكدها وبخلها وحتى في إيمانها بالله. أغلقت التليفزيون رغم أن فاصلا إعلانيا كان يعرض إعلانا تحبه لشركة محمول. فكرت في الاتصال بأختها ولكنها رفضت الفكرة سريعا. أختها مشغولة دائما بطفليها وبزوجها. ولهذا فإنها لا تكف عن الشكوى. أما هي فقد كانت شكوى امرأة كأختها آخر ما تفكر أن تشغل بها وقتها. أحضرت تليفونها المحمول فقد بدا أنها قررت الاتصال بشخص، أيا من كان. جلست مجددا على الكنبة. بدأت في التقليب في الأرقام. ضغطاتها المتواصلة والسريعة على زر المحمول ذكرها بأن يدها المحترقة لم تشف بعد، فبدأت في الضغط بعصبية. جيهان إسكندر.. تأملت حروف الاسم مستعيدة تاريخ علاقتها بها. كانت زميلتها في الجامعة. صديقتها الأنتيم كما يقولون. لا تذهب إحداهن لأي مكان إلا ورجل الواحدة على رجل الأخرى. ما أن انتهت سنوات الدراسة الأربع حتى صارتا كفتاتين لا تعرف كل منهما الأخرى. انشغلت هي بزواج أختها وموت أمها وإنجاب أختها لطفلتها الأولى، وانشغلت جيهان بمنافسة زملائها في الدراسات العليا من أجل التعيين بالجامعة وبزواجها من معيد في قسم آخر. تقابلا منذ سنتين صدفة في عيد الميلاد فصرختا صرخة أفزعت الحاضرين واحتضنتا بعضهما البعض حتى بدتا كطفلين ملتصقين سعيدين بالتصاقهما. عرّفت كل منهما الأخرى بزوجها.. هذا ماجد.. هذا مراد. تبادلتا أرقام المحمول والبيت واتفقتا على الزيارة ووصل حبال الود من جديد. ثم انشغلت هي بالانفصال عن زوجها وبإنجاب أختها لطفلها الجديد وجيهان برسالتها للماجستير وبمساعدة زوجها في رسالته للدكتوراة، واكتفتا برسالتين متبادلتين على المحمول في عيد الميلاد التالى بدتا من صيغتيهما أنهما مرسلتان للا شخص محدد.
قلّبت مرة أخرى وقد أصبح صوت المياه في الحمام كخلفية لمشهد في فيلم لا تلفت النظر لوجودها إلا حين تتوقف، ولأن ما من شيء يمكن أن يتسبب في إيقاف مياه تتدفق فوق ليفة ملقاة بلا عناية في قاع بانيو فإنها لم تلفت نظرها بتاتا. جاسمين يوسف.. هذه البنت! يا للأيام! كانتا جارتين ورفيقتين في دروس اللغة وفي مغامرات الحب الأول.. ضغطت على رقمها لكنها وجدت محمولها مغلقا. قلّبت مرة أخرى متجاهلة أسماء عديدة. فاطمة عبد الرحمن.. ما من سبب للاتصال بفاطمة، فقد افترقتا لتوهما على رصيف المترو. فاطمة زميلتها في العمل تصغرها بسنوات كثيرة، ومع هذا فإنها ما أن رأتها تملأ بياناتها في عقد العمل حتى قررت أنها سوف تكون صديقتها أو على الأقل زميلتها المفضلة، فقد كانت معظم زميلاتها الأخريات لا يحببنها بلا سبب. رفضت تفسير زميلتها جورجيت وإلحاحها على أن زميلات العمل لا يحببنها لكونها مسيحية. جورجيت متشددة كزوجة أبيها، حتى أنها تشبهها في بخلها وفي غيرتها على زوجها. كما أنها هي التي بادرت زملائهما باللامحبة. أما فاطمة فقد بدت منذ اللحظة الأولى كفتاة خارجة لتوها من رحم أم. فاطمة نفسها تجاهلت كل زملائها وزميلاتها المسلمات ورمت نفسها في حجر لميس كطفلة تستعيد رحم أمها. لهذا فقد تحابتا. بل إن فاطمة أصرت ذات مرة على دعوتها للغداء في بيتها، أو بالأحرى بيت أبيها، استقبلتها العائلة بدفء كعائلة حقيقية، وقبل أن ترحل أوصتها أم فاطمة على بنتها، ورغم أن جملة فلتت من لسان أمها أوجعتها فقد أكدت لها أن فاطنة ـ كما تناديها أمها ـ في عينيها. أم فاطمة قالت لها "خلى بالك من فاطنة" وأردفت بلا داع "دي زي بنتك.. ربنا يخليلك ولادك". لم توبخها فاطمة لحظتها بقدر ما عنفها أبوها الذي أصر على توديعها بقبلة على جبينها ليؤكد لها أنها ـ رغم فارق السن بينها وبين ابنته ـ من دور ابنته وفي معزّتها. توبيخ فاطمة لأمها وتعنيف أبيها، وقبلته، لم يزيلوا الجرح الذي نبت في روحها بقدر ما أزالته دموع أم فاطمة من فرط الإحساس بالذنب. بعد رحيلها كان الجرح قد شفى تماما، ولكنه وحتى هذه اللحظة لا يزال في روحها كجرح ملتئم.
رغم أن صوت انصباب المياه في الحمام لم يتوقف فإن ما سحبها من دفتر ذكرياتها كانت الرائحة التي زكمت أنفها. تذكرت الملوخية فألقت المحمول على الكنبة بسرعة وهرعت إلى المطبخ. كانت الملوخية قد تبخرت تماما وانقلبت رائحة العطر الأخضر إلى رائحة حريق. سعلت مرتين بينما كانت تحمل الحلة المحترقة بفوطة وتلقيها في الحوض. تسرب إليها إحساس بالألم بينما كانت تفتح الحنفية على الحلة. ظلت للحظات تراقب المياه وهي تملأ الحوض باللون الأخضر المسود. وقفت كتمثال حجري تراقب حتى بدأ اللون الأخضر في الحوض يبهت قليلا. ثم أغلقت الحنفية بعصبية، وبعصبية أكثر ألقت رغيفي العيش داخل الكيس في الفريزر وطفقت خارجة.
حين خرجت إلى الصالة استعادت صوت المياه في الحمام ولكنها تجاهلته وجلست على الكنبة وبكت. لم تفكر في قدر السوء الذي بدا عليه العالم تلك اللحظة رغم ارتفاع بكائها بالنشيج. تماسكت وسندت رأسها على الكنبة وتلت صلاة كانت أمها قد اعتادت على تلاوتها وهي صغيرة. استعادت ذكرى أمها فعلا صوتها بالتلاوة. وقالت في نفسها إنها لم يكن عليها الاستسلام لرغبة زوجها في تأجيل الإنجاب، وفكرت في أن طفلا ما لم يكن أبدا ليسمح أن تحترق حلة ملوخية ولا أن تسخن المياه بهذا القدر ولا أن تستمر المياه في الانصباب في قاع البانيو، ولا أن تزداد العتمة في البيت بهذه الصورة. وفكرت في أن وحدتها تجربتها، وفي أن الوحدة قدر نصف النساء والرجال الذين تعرفهم، ورغم ذلك استمرت في البكاء والنشيج والصلاة.
رن الهاتف فتوقفت عن البكاء والصلاة فبدا كأن صوت الرنة هو السبب في توقفها عن البكاء والصلاة، لكنه لم يكن. مسحت دموعها في كُم جلابيتها الصوف، وضغطت على زر المحمول مغلقة الاتصال، وقامت لتغلق حنفية المياه في الحمام، غير أن الرن عاد ملحا من جديد. بدا صوت فاطمة على الجانب الآخر مبهجا للغاية فذكرها بصوت أمها. كانت فاطمة تصرخ سعيدة بإعجاب أمها بجلابية نانسي التي أصرت على شرائها لفاطمة كهدية بمناسبة قرب موعد زفافها. كانت فاطمة قد طلبت منها مرافقتها لشراء بعض ما تحتاجه كعروس. استأذنتا من العمل ونزلتا لشراء ما تحتاجه فاطمة. كزوجة قديمة تعرف ما عليها شراؤه وما يمكن تأجيل شرائه رافقت فاطمة. ضحكتا بخجل وهما تشرحان للبائع ما يطلبانه من ملابس داخلية وأطقم نوم، وحين طلبت من البائع "جلابية نانسي" خرجت فاطمة بسرعة من المحل من فرط الخجل، ومن الخارج بدأت تحرك ذراعيها يمينا ويسارا محاولة لفت انتباه لميس، ورغم أن لميس لم تكن في حاجة للفت نظرها لقدر الخجل الذي أمات فاطمة فقد تجاهلت قدر خجلها وأمسكت بالجلابية مراوحة نظراتها بجدية شديدة بين الجلابية وبين فاطمة الواقفة بباب المحل محاولة مقارنتها بجسم فاطمة لتتأكد من المقاس. صوت أم فاطمة صرخ هو الآخر مبتهجا ومبهجا في الوقت نفسه. تناست فجأة أنها كانت تبكى لتوها. تبادلت مع أم فاطمة قفشات كان محورها جلابية نانسي، حتى أن أبيها شاركهم في قفاشاتهم وسمعته يغني "مافيش حاجة تيجي كدا"، لدرجة تمنت معها أن تكون الآن بصحبتهم، في بيتهم، مستمتعة بدفء عائلة تشبه العائلات.
أغلقت الهاتف وكان موعد صلاة الغروب قد آن أوانه. فجلست تتلو صلاتها شاعرة بقدر هائل من الرضا. "أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك.. ليأتى ملكوتك.. ولتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض".. صلاتها ومكالمة فاطمة وعائلتها أزالتا كآبتها كأن لم تكن. فترة قصيرة مضت قبل أن يستعيد وعيها تفاصيل حياتها، الشقة التي أصبحت مظلمة تماما، الحنفية المفتوحة عن آخرها في الحمام، بقعة الرطوبة أسفل مطبخ الجيران، اللمبة التي اسود طرفاها، الأكل الذي لم تأكله.. "خبزنا كفافنا.. واعطنا اليوم واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا".
في حجرتها قررت أن تخرج جلابية نانسي من الخزانة لتلبسها متحدية وحدتها وبرودة الجو. تعثرت في ظلمة الحجرة ففتحت النور. أزعجها رؤية الحجرة على حالتها، كان السرير غير مرتب، وقميصها ما يزال راقدا بجواره فوق البانتوفلي فأطفات النور مكتفية بإضاءة الأباجورة الصغيرة بلمبتها السهاري، كان يكفيها من النور قليله لتنير حجرتها كما يكفيها من البهجة قليلها لإنعاش حياتها. بعد جهد كبير وجدته، جديدا ما يزال، ومعطرا كما في ليلة دخلتها. ورغم فرحتها به لم تلبسه، اكتفت بالاطمئنان عليه وأكملت صلاتها.. "ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير.. بالمسيح يسوع ربنا لأن لك القوة والمجد إلى الأبد.. آمين". تذكرت زوجها فلم تعكر ذكراه تلك الفرحة العابرة، تمسكت بفرحتها عسى أن تصبح فرحة مقيمة. حتى تذكرها تشدده لم يفسد بقاء فرحتها. بعد زوال خجل الزوجة لبست له جلابية نانسي فوبخها كما لو أنها تلبسها لغريب، لم تلبسها مرة أخرى، كما أنها لم تلبس له أيا من أطقم نومها التي اشترتها لها أمها، لهذا كانت صدمتها كبيرة حين أخبرها أنه في طريقه لتغيير ملّته للزواج بأخرى. المؤمن الذي كان يخاف الجنس مخافة الله تركها لإرضاء رغبته التي أشعلتها طفلة أرمينية شقراء في الثانية والعشرين. تمسكت بفرحتها وبرضاها وفرحت أكثر لقدرتها على التمسك بهذه الطاقة من النور، فتلت صلاتها مرة أخرى.. "أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك.. ليأتى ملكوتك.."
كان الماء ما يزال يندلق في قاع البانيو فذهبت للمطبخ. أتت بكيس الصابون وعادت للحمام. صبت الصابون في أركان البانيو ثم دعكته بالليفة. استمتعت برؤية الرغاوي وهي تنسحب من البانيو مختفية داخل فتحة الصرف. وبعد أن اطمأنت إلى لمعان البانيو اغتسلت. دعكت جسدها بقسط وافر من شامبو الاستحمام، ورغم أنها لم تكن تغسل شعرها في كل مرة تغتسل فيها فقد غسلته هو أيضا، ابتهجت برائحة الشامبو فلم يشغلها أنه قارب على النفاد، ولم يشغلها أنه ليس ضمن ميزانية هذا الشهر شراء زجاجة شامبو جديدة، ودلقت منه على شعرها ما كان يكفيها لأسابيع. وكطفلة صغيرة سعيدة بلبس العيد ارتدت جلابيتها النظيفة الخضراء.
حين خروجها من الحمام كان المساء قد صار له حضور مبهج. ظلمة الشقة أصبحت أكثف، فأضاءت أباجورتين صغيرتين بالصالة فصار لحضور الأشياء في شقتها ظلال ومعان.. ونغم. جلست في الصالة تصفف شعرها بهدوء امرأة سعيدة. كان محمولها ما يزال على الكنبة فالتقطته فجأة، بلا سبب محدد اتصلت بجيهان، جاءها صوتها مبتهجا. تبادلتا التحية والمحبة واتفقتا على لقاء تعرف كل منهما أنه لن يحدث ومع هذا أغلقت الهاتف وهي سعيدة. وضعت الهاتف بجوارها وسحبت التليفون ووضعته في حجرها. أمسكت المحمول وضغطت عليه ففتحته لتعرف الوقت. ولما كان الوقت ما يزال مبكرا بالنسبة لها ولأختها فقد اتصلت بها. ردت عليها أختها بسرعة وبصوت خفيض أخبرتها أنها أنامت طفلها الصغير لتوها. أخبرتها أيضا أنها كانت في طريقها للاتصال بها، فقد نطق طفلها بكلمته الأولى، "قال بابا، الواطي أنا أشيل وأرضّع وأنظّف وأسهر الليالي وهو أول ما يقول يقول بابا"، قالت لميس بفرحة "الولد سر أبيه"، فضحكتا، وسمعت صوت زوج أختها بجوارها يتابع الحوار سعيدا. وضعت السماعة وحمدت الله على أن العالم ما يزال ممسكا بكل هذه المحبة.
قامت فدخلت المطبخ فقد كان الجوع قد أصبح قارصا للغاية. من ضلفة بالنملية أخرجت برطمانا للعسل الأسود. سحبت طبقا بلاستيكيا ولكنها أعادته مرة أخرى. ومن ضلفة أخرى أخرجت وعاءً فخاريا وأفرغت فيه بعض العسل. في الصالة أخرجت من حقيبتها كيس بسكويت كانت قد اشترته لفاطمة ولم تأكله. جلست على الكنبة واضعة كيس البسكويت ووعاء العسل في حجرها وفتحت التليفزيون. كان الشيخ قد أنهى صراخه وأراح واستراح. قلّبت في التليفزيون حتى وجدت فيلما قديما تحبه لفاتن حمامة وعمر الشريف في بدايته. غمست البسكويت في وعاء العسل وقالت "بسم الأب والابن والروح القدس إله واحد أمين.. أيها السيد الرب الإله نشكرك على كل حال، ومن أجل كل حال، وفى كل حال، لأنك سترتنا وأعنتنا وحفظتنا وقبلتنا إليك، وأشفقت علينا وعضدتنا وأتيت بنا إلى هذه الساعة". مدت ساقيها على الكرسي المجاور للكنبة. وضعت البسكويت المغموس بالعسل في فمها فتفتحت مسام روحها على الرائحة البهيجة وعلى موسيقى الفيلم الشجية.