قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

"دراويش" أردوغان


شهدت الفترة الأخيرة جدلا واسعا بين الباحثين حول مصير مايسمى اصطلاحا بالنموذج التركي، حيث يرى بعض الباحثين أن هذا النموذج قد تعرض للتآكل والتراجع وأصبح مثل الشهب التي برقت في سماء المنطقة وانطفت فجأة، بينما يرى آخرون ان النموذج قد سقط وانهار تماما في الاونة الأخيرة، وبين هذا وذاك هناك من لا يزال يعتقد أن النموذج التركي قائم ولا يزال يحظى بالتقدير البحثي والاكاديمي على مستويي التطبيق والتنظير العلمي.
كل وجهة نظر من تلك التي طرحتها سلفا تمتلك العديد من الدعائم والأسانيد، التي يبدو بعضها مقنعا بينما يبدو بعضها الاخر بمعزل عن منطق العقل وحقائق الواقع، ولكن تلك هي آليات النقاش الصحي التي تتطلب ان نواجه ـ كباحثين ـ الحجة بالحجة ونقارع العلم بأدواته وليس بالصراخ او القوة أو حتى الشائعات واطلاق البخور بما ينطوي عليه هكذا مسلك من ارتهان للدجل والشعوذة وخرافات العلم والسياسة.
رأيي الشخصي أن النموذج التركي قد فقد مقومات شرعيته السياسية، وإن لم يفقد بعد مظاهر بقائه الحياتية، فالتجربة التنموية التركية تمتلك دعائم كثيرة وتنطلق من مبادىء وركائز عدة اولها واهمها على الإطلاق انها كانت تمثل نموذجا للتعايش بين الاسلام والديمقراطية بمفهومها الليبرالي الغربي المتعارف عليه في الأدبيات السياسية، ولهذا النموذج تجليات عدة في السياسة والاقتصاد والتنمية والثقافة والتعليم وغير ذلك، والكثير من هذه التجليات لا يزال قائما، فالاقتصاد التركي لا يزال يوحي بالاستقرار النسبي، ولكن تقدير خبراء عالميين تشير إلى انه مرشح لمواجهة هزة عنيفة شبيهة بتلك التي أطاحت بالنمور الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي، والأزمة المالية التي قوضت دعائم الاقتصادات الغربية في عام 2008، بمعنى أن قصة النجاح الاقتصادي الباهر الذي كان يتباهى به حزب العدالة والتنمية التركي مرشحة للسقوط والانهيار، وتراجع بريقها الذي تحقق بتضاعف حجم الاقتصاد التركي نحو أربع مرات تقريبا منذ عام 2002، مستندا إلى نمو قوي في القطاعات الاستهلاكية والعقارية، وصعوده كواحد من أبرز الاقتصادات الناشئة وضمن أكبر عشرين اقتصاد في العالم، ففي عام 2006، جاءت تركيا في المرتبة الـ 18 بين الدول الأعلى نموا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وفي عام 2007 ، تقدّمت تركيا لتحتل المرتبة الـ 17 بناتج محلي اجمالي يساوي حوالي 414 مليار دولار بعد ان كانت تركيا تحتل المرتبة الـ 26 في العام 2002 بنحو 183 مليار دولار.
هذا النجاح الاقتصادي الذي يتباهي به حزب العدالة والتنمية، لم تصنعه سياسات الحزب بمفردها، من دون نكران لمقدرتها على توظيف متغيرات الوضع الدولي والاستفادة منها، بل صنعته بالاساس ظروف الاقتصاد العالمي، حيث كان الانكماش هو سيد الموقف في الدول الغربية التي شهدت هروبا جماعيا من جانب المستثمرين، وانتقالا متسارعا لما يعرف بالاموال الساخنة (الصناديق السيادية والاستثمارات الباحثة عن أرباح عالية وسريعة من فروقات الفائدة على العملات) إلى الأسواق الناشئة وفي مقدمتها تركيا، ماعزز بالتبعية مشروعات البنى التحتية الحكومية وقطاع العقارات في هذه الأسواق.
الانتعاش النوعي الذي عاشه الاقتصاد التركي جاء بعد حقبة طويلة من الفساد والرشاوي التي ظلت طويلا سمة مميزة لهذا الاقتصاد، ولكن الفترة الأخيرة كشفت عن أن هذه الممارسات لم تزل قائمة وأن سياسات أردوجان لم تفلح في القضاء عليها او حتى الحد منها بل تحولت إلى أن تكون جزء من هذه الممارسات الفاسدة، التي غرق فيها رموز الحزب وقياداته بما في ذلك أردوجان نفسه!!.
النموذج التركي يستمد إذا بريقه من النجاح الاقتصادي والتنموي، ولكن فضائح الفساد الأخيرة التي تورط فيها أردوجان والمقربين منه حتى طالت فضائح الفساد نجله، وارتفاع التضخم والتراجع المستمر لليرة التركية، دفعت مؤسسات التصنيف الائتماني إلى تخفيض نظرتها المستقبلية لتركيا بل حذرت من تراجع اقتصادي حاد.
يرتكز الاقتصاد التركي على دعائم عدة كما ذكرت سلفا منها أهمها على الاطلاق كونه كان يعتبر من وجهة نظر باحثين عديدون بمنزلة قدوة لمعظم الدول العربية والاسلامية لتجاوز مازقها التنموي الراهن والمصالحة مع صيغ "لبرلة" الاقتصادات وعلمنة السياسات، وكل هذه الدعائم انكشفت وسقطت في أول اختبار جاد لها، وفي ذلك من الشواهد الكثير والكثير.
لم يتحمل أردوجان والمحيطين به قدرا ضئيل من الحريات التي كان يطالب ويداعي بها الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وبادر إلى التعامل بالعنف وبالقوةة البوليسية مع المظاهرات المناهضة له واستخدام سلطاته ضد وسائل التواصل الاجتماعي بين الشباب، واغلق "تويتر" و "يوتيوب" في محاولة منه للحد من انتشار "فيديوهات" وتعليقات توثق ممارسات الفساد في حكومته، مفاجئا الرأي العام العالمي بأن مايتشدق به من دفاع عن الحريات ليس سوى ستار وهمي لا أساس له وأن قناعته بحرية الرأي لا تتجاوز قيد أنملة قناعات أيمن الظواهري وقادة "داعش" وجماعة الاخوان المسلمين الذين لاحقوا كل من حاول توجيه النقد إليهم بالاساءة والتشهير وتلفيق التهم والفضائح باستخدام جيوشهم الالكترونية ومرتزقة الاعلام الفضائي الممول من دول بعينها. وهو مايذكرنا في هذا السياق بقول الشاعر لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم.
إذا كان هناك من دراويش أردوجان من لم يزل يدافع عنه، ويعتبر أن ما نكتبه في هذا الشان نوع من الحقد والغيرة والضغينة ضد الرجل وسياساته، فإن هؤلاء لا يتابعون بأي شكل مايدور حولهم في العالم، فانهيار النموذج التركي لم يكن بسبب انكشافه في فضائح الفساد الأخيرة ولا إدارته الديكتاتورية الفاشلة لأزمة "جيزي بارك" في ساحة "تقسيم" بأسطنبول، ولكن الأمر أبعد تاريخيا من ذلك، ففي عام 2010 أصدرت المفوضية الأوروبية تقريراً يفند ممارسات حكومة أردوجان، واعتبرتها مناقضة تماما لحقوق الانسان، بما تنطوي عليه من ضغوط مفرطة على الإعلام والإعلاميين وقضايا فساد مالي وسياسي وغيرها، وهذا التقرير صدر قبل اندلاع الاضطرابات الأخيرة في العالم العربي الذي نصح أردجان قادته بالاستماع إلى صوت الشعوب!!. وفي العام الحالي صدر أيضا تقرير البرلمان الأوروبي في مارس الماضي بشأن التقدم في تركيا المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وكان من أكثر التقارير الأوروبية إحراجاً منذ عام 2005، حيث أكد أن تركيا تتراجع في المعايير الديمقراطية والسياسية والقضائية. ورصد التقرير انزلاق تركيا نحو الفوضى السياسية في ظل الحكم الاستبدادي والنزعات غير الديمقراطية لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان والحزب الحاكم، والتي أصبحت محل انتقادات واسعة من جانب أوروبا.
ورصد التقرير سياسة كبت الحريات الصحفية والإعلامية التي اتبعها أردوغان، إضافة إلى حالات الفساد التي تورط فيها وزراء أتراك وعائلاتهم، بمن فيهم نجل أردوغان نفسه. وإلى جانب هذه التقارير فإن سياسات النموذج التركي التي كانت تستهدف تصفير المشكلات بحسب ما خطط مهندس السياسة الخارجية التركية عبد الله جول، قد سقطت هي الخرى وتحولت الدبلوماسية التركية إلى مخزن للمشكلات سواء مع دول اقليمية مثل مصر وسوريا، أو مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
قد يحاجج البعض بأن الفساد ظاهرة موجودة في الدول جميعها، المتقدمة والمتخلفة على حد سواء، وأن العبرة بآليات التصدي له ومواجهته بالشفافية والقانون، وهذا صحيح تماما، ولكن ماحدث في تركيا خلال الاونة الأخيرة لا علاقة له بهذه الحجج ولا يمكن الاستسلام لهكذا أفكار، لأن رموز الحكومة الاردوجانية ذاتهم وأسرهم هم ذاتهم رموز الفساد، ما يطرح بالتبعية سؤالا بديهيا حول مدى تجذر ثقافة النقاء السياسي لدى قيادات هذه الحقبة التركية، ومدى توافر إرادة حقيقية للتصدي للفساد واجتثاثه، ثم ماهو الفارق إذاً بين هؤلاء القيادات والحكام العرب الذين ارتدي اردوجان ثوب البطولة في مواجهتهم مدعيا النقارة والطهارة ومدافعا عن حق الشعوب العربية في الحريات والعدالة الاجتماعية!!
ماحدث في تركيا في خلال الأشهر الأخيرة لم يكن نتيجة لمؤامرة كما يدعي أردوجان، بل هو بالاساس جراء سقوط واجهة النموذج بل قناعه الذي ارتداه طيلة نحو عشر سنوات مضت، بحيث طفت على السطح بعض الممارسات المرتبطة بالدول الفاشلة، أو على الأقل الانظمة الفاسدة، والاشكالية الأخطر في ذلك أن هذه الممارسات أسقطت الدعامة الاخلاقية لنظام لا يكل ولا يمل من التباهي بخلفيته الاسلامية.
الدعامة الاخلاقية لأي نظام سياسي ناجح هي ركيزته الحقيقية ولا يمكن لأردوجان الافلات من هكذا استحقاق بالادعاء بأن النموذج التركي لا يرتبط بحزب العدالة والتنمية بل بالدولة التركية ذاتها، فكل مبتدىء في العلوم السياسية يدرك أن النموذج التركي، رغم أنه مصطلح غربي بالاساس جرى الترويج له كمدخل للترويج لمشروع الشرق الاوسط الكبير، مرهون ومرتبط بأردوجان وحزبه، وأن النموذج بحد ذاته له خلفيته وقاعدته الايديولوجية المغايرة نسبيا لبقية مكونات المشهد التركي القائم على العلمانية الصرفة.
ماكان يعرف بالنموذج التركي في وضعية احتضار وموت اكلينكي لافظا أنفاسه الأخيرة، وينتظر فقط أن يرفع الداعم الخارجي له، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، يده عنه ليسقط تماما ويذهب إلى أدراج التاريخ. ولا عزاء لدراويش أردوجان ورفاقه في العالم العربي.