الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الأزهر ورحلة استعادة المكانة


في يوم تاريخي ليس لمصر ولا الأزهر فقط، بل للعالم العربي والإسلامي بأكمله، عقد المؤتمر العالمي للسلام، في الأزهر الشريف، بحضور البابا فرانسيس، والبابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية،
على مدى يومي 27 و28 أبريل تابع العالم الصورة الحقيقية لمصر السلام والحضارة، التي تعيد تجديد شبابها وتستعيد رونقها وتأثيرها الحضاري والثقافي تدريجيًا.

وفي هذا المؤتمر العالمي، استعاد الأزهر الشريف مكانته ودوره العالمي الرائد في التقريب بين الأديان والثقافات والحضارات، وفي قيادة العالم الإسلامي، كما اثبت شيخه الوقور، فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب أنه رجل استثنائي، وأن ما بذله من جهود طيلة الأعوام الماضية، سواء من خلال مكانته الرفيعة في الأزهر الشريف، أو عبر موقعه كرئيس لمجلس حكماء المسلمين، في التقريب بين الأديان ونشر الاعتدال والتسامح والمنهج الوسطي، وفي تكريس مبدأ المواطنة في مصر وخارجها، أثبت أن مابذله من جهود يعكس قناعة حقيقية بقيم ومبادئ متجذرة في وعي فضيلته.

في كلمته التاريخية خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، أكد فضيلة الإمام الأكبر على نقاط مهمة تمثل في مجملها إضاءات مشرقة تؤطر العلاقة بين الإسلام والعالم خلال السنوات المقبلة، وأول هذه النقاط أن فضيلته قد عبر عن عمق قضية السلام، وأنها لن تتحقق بالكلمات العابرة، بل بمزيد من الجهد والعمل الجاد، حيث أكد أن "السلام العالمي، رغم كل ما قيل فيه يبدو وكأنه بحاجة إلى المزيد من المتابعة والتحليل والبحث"، فلم يلجأ فضيلته، وهو رجل العلم والبحث طيلة حياته، إلى الكلمات البروتوكولية أو المجاملات المعتادة في مثل هذه الظروف، بل كان صريحًا واضحًا ومباشرًا، حين اعتبر أن مفهوم السلام العالمي "من أعقد الألغاز وأشدها استعصاء على أي عقل يتقيد بشىء من قواعد المنطق وبدهيات الفكر.

ولم يكتف فضيلته بالاشارة إلى حجم الالتباسات والتعقيدات التي تحيط بالسلام على مستوى النظرية والتطبيق، بل مضى في تحليل الأسباب، حيث اعتمد على منطق فلسفي تاريخي يشهد على عمق العلم وبلاغة المنطق، ولم يجد فضيلته غضاضة في أن يستهل كلمته في الحديث عن السلام من رؤية غربية محضة لقضية السلام، ورؤية الفلاسفة والمفكرين الغربيين لها، ليؤكد للجميع سعة أفقه ومقدرته على بناء جسور حوار مع الثقافات والحضارات الأخرى.

ربط فضيلة الإمام الأكبر من دون مواربة بين الإسلام والخير، مؤكدًا أن الإسلام يعاني التشويه والظلم مثلما عانت المسيحية واليهودية، وذلك في صياغة لغوية بليغة أعادت الحضور لدقائق إلى زمن الخطابة العظيم في التاريخ العربي والإسلامي، ولقد وقفت مليًا عند قوله "أقرر بداية أنَّ كُلَّ ما يُقال عن الإسلام في شأن السلام يُقال مثله تمامًا عن المَسِيحِيَّة واليَهُودِيَّة، لا أقُول ذلك مُجاملَةً لحضَراتِكُم، وإنْ كانت مجاملتكُم مِمَّا يُحْمَد في هذا المَقام"، ثم واصل فضيلته التأكيد على نهج التقريب بين الأديان، مشددًا على أن الإسلام دين مكمل للأديان السماوية جميعها وليس منفصلًا عنها، "إنَّمَا هو حَلقةٌ أخيرةٌ في سِلسلَةِ الدِّينِ الإلهي الواحد الذي بدأ بآدم وانتهى بنبيِّ الإسلام، وأن هذه الرِّسالات من أولِها إلى آخرِها تتطابَق في مُحتَواهَا ومضمونها ولا تختلِف إلَّا في بابِ التَّشريعات العمليَّة المُتغيِّرة، فلكلِ رسالة شَريعة عَمَلِيَّة تناسبُ زمانها ومكانها والمؤمنين بها".

واستعاد فضيلة الإمام الأكبر في كلمته جزءا ضئيلًا من عمله كأستاذ بارع في الفقه الإسلامي، وأكد تكامل الرسالات وتواصل الأديان وتوحد أهدافها وغاياتها النبيلة؛ وحين شرح فضيلة الإمام في كلمته الجامعة رؤيته للاعتدال والتسامح، أقنعنا كما لم يقنعنا أحد قبله من المجادلين في هذه القضية الحيوية، فقد انسابت الأفكار وفق منهجية مترابطة مثيرة لأشد الإعجاب والتقدير، حيث انطلق فضيلته من الاختلاف كسنة من سنن الله في كونه، ترتب عليها تلقائيا فكرة حرية العقيدة، واعتبر أن حرية الاعتقاد والاختلاف في الدين، وجهان لعملة واحدة، وأن حرية الاعتقاد تستلزم بالضرورة نفي الإكراه في الدين، فكيف لدين يبيح حرية الاعتقاد أن يكره الآخرين على اتباعه! وهذه هي الحجة والمنطق التي يجب أن نتحدث بها كمسلمين مع الآخر وليس عبر الضجيج والصراخ!.

تناول فضيلته في الكلمة التاريخية أيضًا قضايا شائكة وحساسة مثل قضية قتال غير المسلمين، موضحًا أبعادها وركائزها على مستويي الفقه والممارسة التاريخية، ثم تناول العلاقة المزعومة بين الإسلام والارهاب، حيث أكد على ضرورة الفصل بين الاسلام كدين، والمسلمون كبشر بعضهم يخطئ وبعضهم يصيب، والقلة منهم تمارس الإرهاب والتطرف، طارحًا سؤالًا منطقيًا بالغ الأهمية هو "وإذا قيل: لا تحاكموا الأديان بجرائم بعض المؤمنين بها، فلماذا لا يقال ذلك على الإسلام؟ ولماذا الإصرار على بقائه أسيرًا في سجن الإسلاموفوبيا ظلمًا وبهتانًا وزورًا؟".

ودعا فضيلة شيخ الأزهر في ختام كلمته التاريخية إلى تبرئة الأديان كافة من تهمة الإرهاب، وربط بصراحة كاشفة -تحسب له- بين الإرهاب والسياسات الدولية الجائرة، التي تعتمد التسلط والهيمنة والكيل بمكيالين.

الكلمة في مجملها بالنسبة لي، كباحث سياسي، كانت بمنزلة محاكمة تاريخية للنظام العالمي وقواعده الظالمة، التي تلعب دورًا بارزًا في تأجيج الصراعات وتفرز الإرهاب وغيره من الظواهر التي تقض مضاجع الأمن والاستقرار العالمي.

لقد نجح الأزهر الشريف من خلال هذا المؤتمر أن يستعيد قدرًا كبيرًا من تأثيره ومكانته، ويجب أن ننوه هنا أن هناك بيئة عالمية مواتية لتحقيق تقارب تاريخي بين الأديان، بالنظر إلى ما أبداه فضيلة الأزهر، والبابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، من مواقف تاريخية تكشف عن وعي حضاري هائل، وتسامح ديني عميق.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط