قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

النباهة والاستحمار...بين المفهوم والتطبيق


وقعت عينى على كتاب قديم بعنوان " النباهة والاستحمار" للمفكر المسلم العلامة د. على شريعتى وأمعنت القراءة وأرهقنى نسيج وكثافة ومتانة أفكاره، وقررت إستعارة عنوان مقالى هذا منه، لعلى أستفيد وأُفيد، فما تعريف الاستحمار، لو أن شخصًا ما حدثت مصيبة فى بيته كحريق أو انهيار مثلًا، وأثناء توجهة لمعرفة ماهية الأزمة والتعامل معها كاطفاء الحريق أو انقاذ أهله من تحت الهدم، فإذ به يقابل شخص ظاهرةُ أنه صديقه أما الحقيقة فهو يكرهه ويحقد عليه فأخذ ينصحه بأن يصلى ويدعو الله أن تزول الغمة عن أهل بيته بدلًا من أن يأخذ بالأسباب ويذهب لإخماد الحريق الذى يلتهم بيته الآن...هذا أبسط مثال على الاستحمار، وهو القدرة على تعطيل الوعى وتسخير المستهدفين مثل الدواب ونزع خاصية التفكير من عقولهم.

وبفرض أن الشخص سابق الذكر ينوى ايقاع الأذى بك، فهو لايدلك مباشرة إلى فعل عمل سيىء فينبه تفكيرك وتسطيع إبطال حيلته، كأن يقول لك اترك بيتك يحترق، ولكن يستبدلها بقوله التزم الدعاء والصلاة إلى الله عسى أن يخفف عنك ما أنت فيه وهذا قدر ...الخ، ويقوم بصرف تفكيرك عن التعامل الأمثل مع مشاكلك، فالاستحمار أضحى تخطيط له منظروه وداعمواه من وراء الكواليس وعبر الكابلات، متمثلًا فى الاستهلاك الأعمى لكل شىء ما نحتاجه وما لانحتاجه ونشتريه لمجرد الاقتناع عبر أساليب الترويج واللعب فى العقول، وهذا ينطبق على كل استهلاك سواء كان منتج أو خدمة أو حتى فكرة، ففى سياق الأفكار نجد العولمة وما تنطوى عليه من حرية انتقال وسريان الأفكار عبر الكوكب مستخدمة أذرعها التكنولوجية فائقة السرعة، فظهرت دعوات أعقبت إنتاج التليفون المحمول مثلًا تحمل شعارات " المحمول فى يد الجميع"، فهو تطبيق لمفهوم الاستحمار فى عقل الجميع، لا أعنى هنا مقاومة فكرية للاستخدام الرشيد لمخرجات العلم والتكنولوجيا الحديثة، لكن دعوة لرُشد الاستخدام، وفى سياق مُتصل نشرت إحدى المجلات العلمية المرموقة فى بحث بعنوان: “ Selfitis – A Mental Disorder” مفاده أن التقاط صور السيلفى يعتبر نوع من الاضرابات العقلية تحت مسمى علمى جديد يسمى “Selfitis”، ويعمل على التخطيط لترويج وهندسة أفكار الاستحمار مجموعات منتقاه من علماء النفس والتسويق والتكنولوجيات الفائقة...الخ، وهم ليسوا كعامة الناس بل يعملوا على استحمار أكبر عدد من تلك العامة وعلى أوسع نطاق جغرافى، فيعملوا على تفصيل مقاسات مختلفة من مفهوم الاستحمار وتطبيقة على فئات عدة، فيوجد استحمار يلبى طلبات الجميع – يوجد جميع المقاسات - للمتعلم والجاهل للغنى والفقير والمثقف والسطحى والطفل والشاب وكبار السن أيضًا من النوعين؛ لضمان تكافؤ الفرص؟! فشعارات مثل تمكين المرأة...الخ تعتبر إحدى أنواع الاستحمار الثقافى والاجتماعى، حيث إن أغلب البرامج المعمول به منذ عقود لا تؤتى بأى ثمار...إذًا هى ضد المرأة بالأساس، وهى نتاج التقليد الأعمى القادم من بذور غربية قلما أنتجت فى أرضها فكيف ستنتج فى أرضنا الغريبة عنها؟!

فعلى سبيل تطبيق مفهوم الاستحمار على شريحة الشباب – وقود الأوطان وقادة نهضتها – فيتم الالهاء عن طريق كرة القدم مثلًا، لدرجة أنه خرج باهتماماته خارج قارته فهو يشجع ويتعصب لفريق أوروبى ضد آخر متابعًا حركاتهم وسكناتهم وأماكن معسكراتهم التدريبية يوم بيوم، هذا على حساب إهماله وتركه لأولويات حياته الشخصية وتطوره كإنسان توجَب عليه إفادة نفسه ومجتمعه وعالمه، وهى مهام لاينجزها غيره فهى لاتُنجَز بالوكالة، وهذا مفهوم " الاستحمار التفصيل" الذى أقصده، وهذا موجود وسارى ومطبق على جميع الفئات، فالمسلسلات التافهة وبرامج الطهى من نصيب الأمهات فى المنازل...إلى آخر هذه المقاسات.

الملاذ الأخير لمروجى ومُهندِسى الاستحمار هو الدين، كأن يطالعنا أحد مشاهير الفضائيات إياها وهو ليس بطبيب متخصص ويقول لمشاهديه، اشربوا بول البعير فإنه شفاء لأمراض كذا وكذا...هذا إن لم تأخذه العزه بالإثم ويقول إنه يشفى من كل الأمراض!، والمفارقة أن تطالعنا نفس القنوات بتقرير بعد فترة عن تردى حالة الشيخ الصحية وذهابة للتداوى فى مستشفيات أوروبا من يكفرهم ليل نهار!...والسؤال لماذا لم يشرب هو بول البعير؟! هذا نوع من الاستحمار بإسم الدين وإستغلال ضعف الناس وعواطفهم تجاه كل ماهو دينى، وهذا ينطبق على من يذهب للدجال الصريح وليس الدجال المستتر فى المثال السابق و " سبوبة " الجهل والدجل والثراء الطفيلى لهذه الفئات، ومن على هذه الشاكلة يروجون فى خطبهم وندواتهم أن الفقر فضيلة وهذا قضاء الله وقدره؛ ليغلقوا أمام خلق الله سُبل الطموح المُفضية إلى النجاح فى الدنيا والآخرة، فتذكروا دائمًا " المؤمن القوى"، وتراهم أنفسهم يركبون السيارات الفارهة ويسكنون القصور!. لدينا تحديات فى كل نواحى حياتنا فى (التعليم، الصحة، الاقتصاد، الزراعة، التجارة، الصناعة...الخ)، وتراهم يجمعون التبرعات باللعب على عواطف الناس بدعوى بناء المساجد، لست ضد بناء المساجد لكن عبادة الله ليست بكثرة المساجد والله العظيم تنفع بالمدارس والمستشفيات والمصانع والشركات والناس تعيش مستورة لا متسولة، وعلى فكرة الأماكن دى بتجوز فيها الصلاة وربنا بيتقبلها من الشقيان على أكل عيشه الذى يصنع قيمة للحياة كما أرادها الله.

وللاستحمار مؤسساته التى تُهندِسه وتخرجه فى أبهى صوره لطعُم يتم بواسطتة اصطياد عدد أكبر من الفرائس، ويجذب عدد أكبر من مريديه. ويتم استخدام وسائل شتى فى تحقيق الوصول لأهدافه وبث سمومه فى جسم ضحاياه، فمثلًا يستهدف بعصا الجهل والخرافة رواد مواقع الاتصال الجماعى ذوى الثقافة الهشة، أنصاف المتعلمين، ويقصفهم بوابل من رسائل على وزن " أن فتاة وصلتها تلك الرسالة فأهملتها فأصيبت بالسرطان" ، أو أنشر تلك الرسالة "أى هبل" وستسمع خبر يسرك خلال 24 ساعة، ناهيك عن الترويج لعلاجات لكل الأمراض، هذا العبث يجد صدى له واستجابة من أعداد كبيرة، ويستحوذ على مساحات فى فضائيات تُرصد لها ميزانيات ضخمة، هذا هو فقط البث التجريبى لمؤسسات الاستحمار، لكن ما سبق ليست الأهداف المعلنه لتلك المؤسسات، فأهدافها تتجلى فى اللعب فى العقول واستهلاك أفكار بالية تمهيدًا لإحداث جدال وفراغات ونزاعات وتناحر مذهبى وطائفيه... - النتيجة المنطقية للجهل - إلى آخر تلك المهلكات للأمم.

نصف المتعلم والاستحمار، لو أن لدينا شخصان أحدهما جاهل والآخر نصف متعلم نصف مثقف، وحدث عطب ما بجهاز التكييف فى منزل كلا الشخصين، فيكون تصرف الأول ( الجاهل) أن يتصل بمركز الصيانة لإصلاح العطب ويدفع لهم مقابل عملية الاصلاح تلك، أما الشخص الثانى فيتولى إصلاح الجهاز بنفسه وهو غير مؤهل لذلك؛ فينتج عن هذا التصرف تلف فى الجهاز أعظم من ذى قبل، وبالتبعية زيادة كُلفة إصلاحه بعد ذلك، لاعتقاده أنه يعلم كل شىء عن صيانة الجهاز، فيكون الغرور والعند وعدم استعانته بمتخصص يحل المشكلة سببًا فى حدوث كارثه؛ اعتقادًا منه بشمولية علمه، هذا على نطاق جهاز تكييف فما بالنا اذا كان نطاق المشكلة مصنع، شركة، وزارة، دولة...أن تقول لا تعلم هذا لايعيبك...دع من يعلم يعمل...وتعلَم منه إن أردت، فالجاهل هنا أفضل من نصف المتعلم لشعوره بالجوع المعرفى فيأتى بمن يحل له المشكله، أما نصف المتعلم يشعر بالشبع والتخمة الفكرية الخادعة...فلا هو يساعد نفسه ولا يترك المجال لآخرون كى يساعدوه.

التحليل النهائى، الاستحمار هو أشبه بحقنة المخدر قبل إجراء جراحة، فعلى حسب صحة المريض والجراحة المتوقعة تُحدَدَ الجرعة وهل هو تخدير جزئى أم كلى، فإذا كانت العملية الجراحية سرقة وطن وتاريخ كأرض فلسطين وجب اعطاء جرعة كبيرة وممتدة المفعول مثل ( جرعات اعلامية وتهويد تاريخ أرض فلسطين، بهارات ثقافية، إحداث الخلافات العربية العربية، اللعب على المذهبية والطائفية، دعم جماعات إرهابية...الخ) وقد يستدعى الأمر توليفة من كل ماسبق من مخدِرات، وإذا كانت العملية هى ضرب أساسات أى أمة إذًا فنحن نتحدث عن شبابها، فعليك بجرعات متواترة وخليط من نشر الإباحية، والمخدرات، وشتى أنواع الإلهاء، والموضه والصيحات والملابس، والاتصالات وصور السيلفى واللايف، فماذا يتبقى للشباب غير الضياع وسط غابة بلا بوصلة تعينة ولا نجم يرشده إلى سواء السبيل.

هذا، وبعد الاستعراض البانورامى لمفهوم وتطبيق الاستحمار وكيف هو متغلغل فى نسيج الحياة فى الأكل والشرب والاستهلاك والدين والاجتماع والعلم ...الخ، " فهل إلى خروج من سبيل" الحل فى النباهة، وهى عدم الاحساس بالإشباع الفكرى والإمتلاء الثقافى، بعدم الاقتناع بالوصول لمستوى معين من المعرفة، بالبحث عن الحقيقة والسعى إليها طيلة العمر...ولن تصل ...فقط مُت وأنت تحاول...خير من استحمارك من الجميع.

وأخيرًا..." أنا أفضل أنا أمشى فى الشارع وأنا أفكر بالله عن الجلوس فى المسجد وأنا أفكر فى حذائى"...على شريعتى

الخلاصة...قارئى العزيز النباهة لم تأخذ حقها فى المقال ...استنتجها أو اصنعها بنفسك.