الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حياة الحفيان تكتب: الإنتحار و السيزيفية

صدى البلد

ولد الإنسان في لحظة تتسم بالصراع المرير من أجل معانقة الحياة ومن أجل عيش شتى تفاصيلها المتضاربة من خير وشر، نجاح وفشل، سعادة وحزن، ولئن اكتظت هذه التفاصيل الحياتية بالتناقضات فإنه توجب على الانسان أن يعيشها مع الظفر بمحاولة بلوغ السعادة والتي بالنسبة للبعض لا تعدو إلا أن تكون وهما طوباويا.

 ذلك لأن الحياة تملأها الضبابية وتسودها العبثية فهي تزج بالإنسان نحو العدم فينمو هذا الشعور بالعدمية أو باللاشيء داخل الذات البشرية الباحثة عن الخلاص لنفسها من نفسها أولا ومن قواعد الحياة ثانيا، فتبدأ هذه الذات في الجزم بأن السعادة التي تبحث عنها لا وجود لها داخل حياة يومية رتيبة يملأها الظلم الإجتماعي والفساد السياسي والانحراف الأخلاقي، فلا سعادة في وطن نشعر فيه بالغربة ولا سعادة في مجتمع نزدريه ويزدرينا، مجتمع يكبل مطامحنا بقوانين العادات والتقاليد وخاصة الشعور بالندم.

 هذا الشعور الذي يفقدنا كمالنا الخاص لتسيطر فكرة العدم داخل العقل البشري بعد اليقين بأن كل ما فعله الانسان وكل ما سيفعله لا جدوى منه فكل شيء سيذهب هباء بما أن النهاية ستكون العودة إلى اللاشيء ليفقد الانسان ثقته في ذاته وفي الآخر وفي العالم، فينفر الحياة بشتى تفاصيلها وصولا إلى اتخاذ قرار نهائي لا رجعة فيه وهو الإنتصار على العدم من خلال الظفر بفرصة جليلة من شأنها أن تمنحه القدرة على التحرر من اللاجدوى والبقاء فوق الأريكة منتظرا مجيء الموت فيهب لنفسه أحقية اختيار توقيت وفاته ومكانها ظنا منه أن الشجاعة الحقيقية تكمن في التحرر من هذا العدم المميت بعد أن أضحت الحياة مقيتة وسيزيفية تعكس قلقا وجوديا لذات ميتة لا محالة أو بالأحرى لجثة متحركة لا جدوى منها فتكون الحياة بالنسبة لهم مهزلة وجب إنهاؤها او بالأحرى مأساة وجب الخلاص منها.

 فهم يقرون بأن الإنسان لم يأت عبثا ولكن من العبث أن يظل على قيد الحياة فيكون الانتحار هو القرار الذي يفصلهم عن لحظة الظفر بالحرية الإنسانية الحق التي من المستحيل أن تتحقق داخل حياة يسودها العبث المطلق والقلق الوجودي الذي يترجم بحث الإنسان عن نفسه داخل نفسه، ثم داخل الأشياء المحيطة به، ثم داخل الآخرين، ثم داخل الإله، وأخيرا داخل العدم دون أن يجدها وكأن مصير هذه الذات هو أن تظل معلقة بين أوجاع الصدفة وعبثية الوجود ولا سبيل لتحررها إلا باللجوء إلى صناعة طريقة مهيبة لإنتحار ذاتي وجسدي على حد سواء، غير أن الإنتحار لم يكن يوما انتصارا أو شجاعة أو بطولة بل هو مجرد رسالة منتهية الصلوحية مفادها أن الإنسان ضعيف وعاجز عن بلوغ حريته لأن الحرية لا تأتي عن طريق إنهاء الحياة وإنما عن طريق التمسك بالحياة حتى اخر نفس ذلك أن الإنتصار على العبثية لا يكون من خلال بلوغ الموت وإنما من خلال الوقوف في وجهه وتحديه بالعمل والإنتاج ونشر الخير والمعرفة داخل المجتمع.

 فكل أولئك الذين اختاروا الانتحار اختاروه في لحظة غفلة لحظة ضعف ترجمت جبنهم الصارخ في الوقوف أمام ذواتهم وحتى أمام عالم الأشياء، معتقدين أن الموت هو الخلاص الوحيد من كل تلك العذابات الدينية والاجتماعية والسياسية التي قد بلغوها، وقد يصل بالبعض إلى اعتبار الإنتحار عملا بطوليا لا يقدم عليه إلا الشجعان الذين أبت أنفسهم ذل الحياة و عبثها تاركين عبر ذلك رسائل ولئن كانت في الظاهر ذات كلمات مؤثرة إلا أنها في حقيقتها تعكس مدى وهن الذات البشرية ومدى ضعفها وخاصة عجزها على مواجهة العذابات التي تملكت بها فأبوا أن ينقبوا في المعنى الحقيقي للوجود الإنساني والذي في الحقيقة هو وجود فريد للغاية وخاصة أن يدركوا المعنى السامي للحياة التي أبت إلا أن تكون معركة دامية على الإنسان الخوض فيها بكل طقوسها عليه البدء في الصراع دونما خوف أو تراجع فإما أن ينتصر للحياة وإما أن ترميه الحياة خارج اسوارها العتيدة.

 الحياة حرب ضروس إنها الحرب على التقوقع الدفين ذاك التقوقع الذي يحاصرنا من شتى الاتجاهات والذي لا يتوقف البتة عن محاولة اقتلاع جذورنا العرقية والعرفية إنها جذور حضارة بأكملها إنها حضارة الحياة، الحياة ثورة جامحة ومتبجحة إنها الثورة على التقاليد البالية وعلى القولة المأثورة "اعبر النهر مع الحشد فلن يؤذيك التمساح" هذه الثورة المتغلغلة في دمائنا ضد كل ماهو سائد ومأثور، هذه الثورة المتكبرة على التمساح الذي سوف لن يؤذيني إن مررت رفقة الحشد وربما إن كنت انا ذاك الحشد، فالحياة دعوة مستمرة إلى الصمود أمام الواقع بكل تفاصيله الموجعة، الصمود أمام المرض وأمام الحرب وأمام الوحدة بل الصمود أمام الموت نفسه لأن الانتصار الحقيقي هو أن تجيد التنفس وانت في رحم المأساة.

-