الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نعمة الدموع


هل تصوّر أحد أنه لو توقف إفراز الدمع وجفت العين تماما لدقيقة واحدة فقط لما أمكن فتحها أو تحريكها، ولو طال جفافها لأيام وأسابيع لتقرحت القرنية وفقد البصر، وأن في الدمع مادة مطهرة تسمى الليسوزيم تأكل البكتريا والجراثيم كما تأكل النار الحطب، وفوق كل هذا وذاك، يرافق الدمع هرمون السعادة الإندورفين الذي يخفف الآلام ويهديء النفس، وهو الذي أكسب البكاء مكانة رفيعة في الأدب والتراث؟ 
  
وضع الخالق سبحانه وتعالى في محيط كل عين للإنسان غدد دهنية متنوعة، ونوعين من غدد الدمع كبيرة وصغيرة.. الدموع التي ترطب العين على مدار الساعة تأتي من الغدد الصغيرة لأن طاقتها محدودة، أما لو تطلب الأمر كميات كبيرة من الدمع فتلك مهمة الغدد الكبيرة.. لكن لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها قد تجف العين وتتهدد نعمة البصر.. وحمدا لله أن توفرت قطرات دموع صناعية بالصيدليات لتحد من تلك المشكلة. 
  
بشكل عام، يبكي الأطفال أكثر من الكبار، والمسن يبكي أكثر من الشاب، والمرأة تبكي أكثر من الرجل.. ولم يتأكد العلماء من أن الحيوانات تبكي، لكنهم تأكدوا أن لديها دموع ولديها غدد لإفرازها. 

من أشد أنواع البكاء عمقا وعاطفة هو البكاء من خشية الله خوفا من عقابه والشوق إلى لقائه.. أحد السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله "رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه" كما جاء في الحديث الشريف، ويحدث البكاء من خشية الله أيضا عند تلاوة القرآن على انفراد، أو أثناء القراءات والركعات الجهرية في المساجد.

وبكاء الإنسان عند فقد عزيز أو فراق حبيب أو منزل أو على أطلال، كان وراء إبداعات أدبية وشعرية كثيرة خلدها التاريخ.. منها قول امرؤ القيس مستهلا معلقته: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل"، والموال السبعاوي الجميل:
"مات الكرم بعدهم والعز والجودي * جودي عليهم يا عين بالبكا جودي"

والسبب في بكاء المرأة أكثر من الرجل بعشر مرات هو أن هرمون البرولاكتين عندها أعلى وهو المحفز لإدرار كل من اللبن والدموع، إضافة إلى عاطفتها الأكثر حضورا.

البكاء المصحوب بصوت يسمي عويل أو نياح، وهو مثير جدا للعواطف وينتشر كالعدوى بين النساء في "المناحات".. 

الطفل يستخدم البكاء وسيلة للتعبير والتواصل مع الكبار لإبلاغهم بجوع أو ألم في جسمه، وأحيانا ليستدر العطف أو يختبر معزته عند والديه وعند الآخرين.. ونادرا ما يبكي البالغ من ألم شديد في جسمه، لكنه قد يبكي بعد هزيمة أو خسارة كبيرة. 

وهناك حالات تشبه البكاء أسبابها موضعية في العين، وبلا دوافع عاطفية.. فمن المعلوم أن الدموع تفرز على مدار الساعة لترطيب وتطهير كرة العين، وعملية الرمش تقوم بمهمة توزيع وترطيب الكرة وتصريف الدمع الزائد إلى الأنف والبلعوم، لكن لو حدث انساداد في قنوات التصريف تلك، ستنزل الدموع على الخد، ونفس المشكلة أيضا تحدث عند شلل الوجه النصفي حيث تتوقف عضلات الجفن عن الحركة وبالتالي لا يتحقق هدفي الرمش (الترطيب والتصريف).

ومن أشباه البكاء أيضا إثارة مقلة العين بجسم غريب كرمش مخلوع أو حشرة أو ذرة تراب أو أبخرة مهيجة (كالغاز الكبريتي المتصاعد من تقطيع البصل). في هكذا حالات تنهمر الدموع بغزارة لطرد الجسم الغريب وغسل العين.. وأحيانا يضحك الشخص بشدة فتغرق عينيه بالموع بسبب قوة انقباض عضلات الوجه وضغطها على الجهاز الدمعي.. ومن الناس من لديه القدرة على البكاء لمجرد النفاق، فيبكي بحرقة في جنازة ميت لا يعرفه، نفاقا لشخصية مهمة من عائلة هذا الميت. 

والطريف في الموضوع هو بكاء شخص أثناء مشاهدته فيلما أو مسلسلا تلفزيونيا لا تمت شخصياته له بصلة قرابة أو معرفة.. بحث العلماء عن أسباب تلك الظاهرة فوجدوا أن الأوكسيتوسين (هرمون الحب والإرتباط) يخدع مراكز الحزن في المخ ويوهم صاحبه أن المشكلة تخصه، وينسى تماما أن ما يراه مجرد تأليف وتمثيل وعمل بأجر.. والهرمون لا يتعمد خداع صاحبه بالطبع، لكن لأن عمله واحد في الحالتين..

علميا، ينطلق البكاء الحقيقي من "المنطقة النفسية" في عمق الفص الصدغي من المخ، ومنها إلى منطقة تحت المهاد إلى شبكة الأعصاب اللاإرادية ثم إلى محيط العين من خلال الأعصاب الدماغية، لينطلق الدمع مصحوبا بغصة في الحلق وزيادة في التعرق وارتفاع وقتي في ضغط الدم، كما يلعب هرمون الارتباط "الأوكسيتوسين" دورا مهما في تأجيج العواطف، ولاحظ العلماء أن الدموع العاطفية تختلف عن الدموع الأخرى لاحتوائها على نسبة عالية من الهرمونات.

ورغم فوائد البكاء، لكن يجب أن يكون له حدود، فلو زاد عن حده صاحبته آثار جانبية كالصداع وارتفاع ضغط الدم المستمر، وربما يكون مؤشرا لبعض الأمراض العصبية كالهيستيريا والاكتئاب.. 
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط