الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ضبط العضلات وإطلاق الفكر.. حكمة إلهية


عندما خلق الله جسم الإنسان وضع فيه آليات لتنسيق حركته وضمان توازنه، فلا يسقط على الأرض أثناء المشي بخطوات محسوبة، ولا يتصادم مع الآخرين بمراعاة المسافة بينه وبينهم بدقة، والتناغم في الصعود والنزول على الدرج، وحتى الطفل الرضيع إذا مال جسمه على جهة يشد نفسه لا أراديا إلى الجهة المقابلة.. بمعنى أن جميع حركات الجسم موجهة ومحسوبة تلقائيا.

لكن هل وضع فينا سبحانه وتعالى آليات وأوامر توجه العقل والفكر تلقائيا كما فعل مع الحركة ؟.. كلا.. لقد خلق الله العقل وترك لصاحبه حرية التصرف واستخدامه بالطريقة التي يراها. سنشرح كيف تتوازن حركات الجسم تلقائيا وكيف يتشكل الفكر علميا، مع التذكير بأن العقل والفكر يحملان نفس المعنى (تقريبا)، وأن موضوع المقال لا علاقة له بما يعرف بـ "لغة الجسد" التي هي حركات تعبيرية ترافق الكلام لتفهيم المخاطب.
في رأس كل إنسان مخ كبير وزنه 1400 جم تقريبا، وأسفله من الخلف مخ آخر أصغر منه بعشر مرات يسمي المخيخ (وزنه 140 جم تقريبا)، فلماذا احتاج المخ إلى مخيخ بجواره ؟ 
 
المخ "الكبير" يقوم بشتى الوظائف.. فيه قرابة مائتي مركز لكل منها اختصاص محدد كالحركة والحواس الخمس والنطق والتعلم والذاكرة والإبداع والنوم والأحلام والحب والكراهية.. إلخ. 

فإذا كان المخ الأصلي يقوم بكل هذا، فما دور المخيخ ؟ تبين أن المخيخ يقوم بعمل المراقب و"المهندس المنفذ" الذي يقيس الحركات بناءا على خرائط عنده لكل مناطق الجسم بالتشاور مع حاستي البصر واللمس، ولكي يقوم بذلك يجب أن يحصل على نسخة من كل المعلومات الواردة من أجزاء الجسم قبل وصولها إلى المخ الأصلي، كما يتصل بالأذن الداخلية لتبلغه عن توازنات الجسم، ويتصل بالعضلات ليعلم من منها المنقبض ومن منها المرتخي، والأعجب من ذلك أن المخ يتصل بالمخيخ ليبلغه مسبقا بكل ما ينوي القيام به، لأنه هو من سيتولى قياس وضبط أي حركة عند التنفيذ.
 
إذن، وظيفة المخيخ هي ضبط حركة الجسم وتوازنه، وإذا أصيب المخيخ بمرض يفقد الشخص توازنه ويشعر أن الأرض تدور به وترتعش يداه عند الحركة وتخطىء هدفها.
 
نعود إلى الشق الثاني من المقال وهو الفكر، ولماذا لا يوجد له "مخيخ" يحكمهه. 

كرم الله الإنسان بأن وضع في رأسه عقل وفكر، وهو ما لم يوضع في رأس أي مخلوق غيره، وذكرت كلمتي العقل والفكر ومشتقاتهما في القرآن الكريم ما يقرب من سبعين مرة.

ولأن قدرة العقل غير محدودة، يمكن لشخص أن يحصل على أكثر من بكالريوس ودكتوراه وأكثر من جائزة نوبل، وهناك أربعة أشخاص حصل كل منهم على جائزة نوبل مرتين حتى الآن.. أي أنه لا حدود للعقل إذا انطلق.. قيمة العقل وطاقته اللامحدودة هي التكريم الذي ورد في في الآية "ولقد كرمنا بني آدم" (الإسراء 70)، وكل شىء بإرادة الله وتوفيقه، وهو سبحانه "يؤتي الحكمة من يشاء" (البقرة 269)، بمعنى أن الحكمة هبة للبعض وليست تركيبا ثابتا في مخ كل إنسان. 

بعد أن خلق الله العقل وأعلا قيمته، تركه حرا وأعطى بشأنه ثلاثة توجيهات أو أوامر حددها القرآن وأيدها العلم الحديث وهي: ضرورة استخدامه، ضرورة تزويده بالمعرفة، ثم حمايته من الانحراف.
 
1- الأمر باستخدام العقل ورد في آيات كثيرة منها "أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض" (الأعراف 185)، "أو لم يتفكروا في أنفسهم" (الروم 8)، مع التأكيد على اتباع البرهان والدليل وعدم الانقياد الأعمى: "قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" (البقرة 170).
 
2- الأمر بتزويد العقل بالمعرفة باستمرار، وهذا الأمر ورد في القرآن وفي الديانات الأخرى كذلك.. أول كلمة نزلت من القرآن "إقرأ"، وفي سورة طه "وقل رب زدني علما" (114)، وفي سورة الزمر "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (9)، وفي الكتاب المقدس سفر هوشع "هلك شعبي من عدم المعرفة" (6:4).

3- الأمر الثالث ضرورة المحافظة على سلامة العقل والبعد عن كل ما يفسده من مسكرات وقمار وتحصينه من الظن والأوهام والخرافات "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" (المائدة 90). 

هكذا اقتضت حكمة الخالق.. حركات أجسامنا محكومة وموجهة بالمخيخ ومئات الأعصاب تلقائيا، أما الفكر فغير محكوم، واتخاذ القرار متروك لناصية المخ التي وصفت بالكاذبة الخاطئة (إشارة إلى صاحبها أبي جهل - سورة العلق).. ولا يفوتنا السؤال: هل الإنسان مخير أم مسير ؟ قضية حسمها الإمام الغزالي هكذا "الإنسان مخير فيما يعلم مسير فيما لا يعلم".

وعليه فإن مسئوليات العقل جسيمة، مطلوب منه أن يفرز بين الحق والباطل ويتخذ القرار ويتحمل النتائج، وهو من يرفع صاحبه إلى عنان السماء أو يسقط به إلى الهاوية. 
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط