الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

النكتة.. تاريخها وهدفها ومسارها في المخ


النكتة قصة قصيرة جدا قد تكون جملة واحدة، لكن بها بداية وحبكة ونهاية، فيها مبالغات ومفاجآت ومضمونها يغني عن مقال طويل، وهي تختلف عن الكذب، لأن الكذب صفة سيئة ومذمومة، أما النكتة فمحببة ومضحكة رغم احتوائها على جزء من الكذب، ولو كانت النكتة كلها كذب ما أحبها أحد ولا ضحك لها.

تبدأ النكتة بمعلومة طبيعية وحقيقية ثم تسبح في الخيال إلى لحظة المبالغة والمفاجأة لإبراز فكرة يستفيد منها السامع ويضحك بسببها، ومعلوم أن للضحك فوائد كثيرة يطول شرحها هنا، فهو وسيلة للتغلب على مشاكل الحياة وتعقيداتها، وله أثر طيب على الصحة من خلال هرمون السعادة "إندورفين" الذي يصاحبه. 
 
النكتة يعرفها العالم أجمع، ولها جذور ضاربة في التاريخ منذ أيام الفراعنة والسومريين، ونكاتهم التي وصلت إلينا لو تقال حاليا تعطي نفس التأثير الذي قيلت من أجله كما لو أنها صيغت اليوم.. أكثر النكات يصاغ لانتقاد أوضاع أو حكام أو حموات وزوجات، وروايتها طريق غير مباشر لتناول موضوع محظور تحاشيا للمشاكل.
من أجمل النكات الفرعونية التي عثر عليها مكتوبة على جدران أحد المعابد، تلك التي تنتقد الملك سنفرو: "إذا أردت أن تسعد الملك فعليك بدفع مركب في النيل وعليه أجمل بنات مصر وقد استبدلوا ملابسهم بشباك صيد، وتطلب من الملك سنفرو الصعود معهم للصيد دون أن يأخذ معه شبكة، ليختار الشبكة التي تروق له"..
يتولد الضحك عند سماع النكتة بعد مسار طويل في المخ، بدءا من مركز السمع إلى منطقة الكلام إلى تحت المهاد والنواة المتكئة "مركز السعادة" الذي تصدر منه زخة من هرمون الدوبامين، وأخيرا يصدر الأمر النهائي بالضحك من الفص الجبهي الأيمن للمخ، وثبت توقف الضحك إذا أصيبت إحدى هذه المناطق وتعطل مسار النكتة، كما في بعض الأمراض العصبية كالشيزوفرينيا حيث لا يفهم المريض النكتة ولا يضحك لها..
وعلى النقيض، أضيف مؤخرا مرض عصبي جديد تم تسجيله عام 2016 وهو "مرض إدمان النكتة" بعد أبحاث على مرضى كان أحدهم يوقظ زوجته عدة مرات في الليلة ليرغمها على سماع نكات حتى نفذ صبرها عليه واشتكت، وبفحصه تبين أن الرجل سبق إصابته بجلطة دماغية أربكت مراكز النكتة في عقله. 

وليس بالضرورة أن تحمل النكتة ذما أو إساءة، فكثيرا ما يكون وراءها مدحا مبطنا، ففي كتاب صدر عام 2002 بعنوان "الصعيد بين الحقيقة والفكاهة" لكاتب المقال، وبصفته من أبناء المنطقة ويفهم طبيعة أهلها ويفخر أنه منهم، قام ببحث مستفيض استعرض فيه تاريخ الصعيد وكيف كان مهدا لأعظم الحضارات، ليتبدل حاله ويعانى من الإهمال وغياب التنمية لمئات السنين، حتى افتقر شعبه الطيب الصبور وأصبح مادة للنكتة.
المتأمل في المعنى العميق للنكات على أهل الصعيد يجد أنها تعني المدح في أغلب الأحيان لانفرادهم بصفات أصيلة وجميلة، وفي كل نكتة نجد فكرة أو صفة يراد إبرازها في إطار من المبالغة والإثارة.
فيما يلي تحليل علمي لأبرز خمس مميزات صعيدية ونماذج للنكات المعبرة عنها:
يتميز الصعيدي بالقوة الجسمانية الهائلة، رغم مستوى معيشته المتواضع وقلة إمكانياته، وصيغت نكات تعبر بصدق عن شدة تحمله وقوته الأسطورية من قبيل "دخل في رجله مسمار معرفش يطلعه تناه"..
ومن شيم الصعيدي الكرامة وعزة النفس مهما ضاق حاله، إضافة إلى أسلوبه المباشر وعدم إتقانه اللف والدوران، فجاءت النكتة التي جمعت كل هذه الصفات وعبرت عنها بدقة "حكمت له المحكمة بالبراءة استأنف". الاستئناف هنا كان اعتزازا بكرامته وعزة نفسه وكأنه يريد أن يقول لماذا كان الاتهام من الأساس.
 
ومعلوم موقف أهل الصعيد المتشدد من اختلاط المرأة أو كشف وجهها، وإن كان ذلك قد تغير بعض الشيء مؤخرا بعد التوسع في التعليم هناك، لكن تستمر النكتة لحلاوتها ودلالتها حتى لو أشارت إلى ماض قريب: "طلق مراته واتجوز تاني لقى مراته هي هي"!.

ولسنوات طويلة عاش الصعيد معزولا، وكان سفر المواطن الصعيدي إلى القاهرة يعد إنجازا ضخما بالنسبة له نظرا للتكلفة العالية وبعد المسافة، وكان كبار المسئولين يدركون ذلك حتى أن المغضوب عليه من موظفي الوجه البحري والقاهرة كان يعاقب بنقله إلى الصعيد، فأصبحت العزلة أيضا مادة دسمة لصياغة النكتة: "ماسك حتة تلج يتأمل فيها ويقول نفسي أعرف بتخر منين".

وعن النية الصافية والكلمة الواحدة التي تميز بها اهل الصعيد، والتي تكلفهم الكثير في أغلب الأحيان "أعلن ميكرفون المطار: "المسافرون على رحلة السعودية عليهم التوجه لركوب الطائرة".. الكل ركب الطائرة إلا واحد بلدياتنا، سألوه انت رايح فين؟ قال لهم السعودية، قالوا له سمعت الميكرفون؟ قال إيوه سمعت.. بيقول اللي رايح رحلة.. وأنا رايح على باب الله"..
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط