الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أفريقيا بين السيسي ومبارك


يخطئ من يعتقد ، أن أصعب ملفين إفريقيين ، واجههما الرئيس عبد الفتاح السيسي ، عندما كلفه المصريون بإنقاذ مصر بمقتضى ثورة 30 يونيو، هما سد النهضة الإثيوبي، و تجميد عضوية مصر في منظمة الاتحاد الإفريقي.

 لكن الملف الذي لا يقل صعوبة الذي واجه الرئيس السيسي، كان في واقع الأمر ، إهمال مصر لقارتها الإفريقية لسنوات طويلة ، ليبادر الأفارقة بالرد على الإهمال المصري ، بإهمال مماثل، لدرجة قبولهم تجميد عضوية مصر في المنظمة الإفريقية، رغم أنها من أهم الدول المؤسسة للاتحاد الإفريقي عندما رأى النور للمرة الأولى ، في 1963 ، تحت إسم منظمة الوحدة الإفريقية .

و رغم أن كل الاتهامات ، ألقت بمسئولية تراجع مصر إفريقيا على الرئيس السابق ، حسني مبارك، نتيجة تعرضه لمحاولة اغتيال في أديس أبابا ، في 1995 ، خلال مشاركته في القمة الإفريقية ، إلا أن الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الدكتور بطرس بطرس غالي، كان يرى أن مسئولية وزير الخارجية السابق، عمرو موسى، في غياب مصر إفريقيا ، لا تقل عن مسئولية حسني مبارك.

وأتذكر، عندما كنت مديرا للمكتب الصحفي لوكالة أنباء الشرق الأوسط في باريس، عبر لي الدكتور بطرس غالي ، قبل انتهاء ولايته كأمين عام لمنظمة الفرانكوفونية، في 2002، عن قلقه الشديد حيال تراجع مصر إفريقيا. 

وكشف لي الدكتور بطرس غالي عن أنه طلب من الرئيس حسني مبارك ، قبل مغادرته القاهرة ، في 1992، لتولي منصب الأمين العام للامم المتحدة، بضرورة استبدال منصب وزير الدولة للشئون الخارجية، الذي كان يشغله الدكتور بطرس غالي بنفسه، بمنصب وزير دولة للشئون الإفريقية ، مبررا ذلك، بالدور الذي لعبته الدول الإفريقية في تدعيم جهود مصر، و فرنسا ، للوصول بالدكتور غالي لمنصب، الأمين العام للأمم المتحدة، في الفترة من 1997 إلى 2002 . 

و كان الدكتور غالي برر طلبه من الرئيس مبارك بتعيين وزير متفرغ للشئون الإفريقية ، بعدم إعطاء الفرصة لأعداء مصر للعب في الماء العكر، خاصة و أن إثيوبيا لم تتوقف منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر ، عن التلويح ببناء سد النهضة الذي يهدد رصيد مصر التاريخي من مياه نهر النيل .

وتابع الدكتور بطرس غالي قائلا " إن الرئيس مبارك استدعى بالفعل عمرو موسى، و أبلغه بما طالب به الدكتور بطرس غالي قبل سفره لنيويورك، غير أن عمرو موسى رفض حتى مجرد تعيين وزير دولة للشئون الخارجية بل و طالب بإلغاء المنصب ، مؤكدا أنه قادر كرئيس للدبلوماسية المصرية بمساعدة الرئيس مبارك على عدم حدوث أي فراغ مصري في إفريقيا ، حتى بعد أن تولي الدكتور بطرس غالي منصب الأمين العام للأمم المتحدة .

لكن من يحلل الأحداث التي جرت بعد ذلك، سيكتشف أن وزير الخارجية ، عمرو موسى ، إنشغل تماما بالسياسة الخارجية المصرية غير الإفريقية ، خاصة فيما يتعلق بتداعيات الغزو العراقي للكويت ، ثم سلسلة مبادرات و إتفاقيات "وهمية" بزعم حل القضية الفلسطينية، بدء بإتفاقية أوسلو في 1993 ، ثم إتفاقية غزة أريحا 1994 ، و مرورا بإتفاقية طابا أوسلو الثانية 1995 ، و إتفاق واي ريفر الاول 1998 ، و إتفاق واي ريفر الثاني ، 1999 و انتهاء بتقرير ميتشل 2001 .

وأظهر عمرو موسى تشددا كبيرا حيال كل هذه الإتفاقيات الوهمية لحل القضية الفلسطينية ، الأمر الذي رفع من شعبيته في مصر و العالم العربي لدرجة أن المغني الشعبي ، شعبان عبد الرحيم ، غني أغنية يمتدح فيها تشدد عمرو موسى حيال إسرائيل بعنوان " بحب عمرو موسى و بكره إسرائيل "رغم أن كل هذه الإتفاقيات الوهمية ، لم تتقدم بالقضية الفلسطينية و لو بخطوة واحدة إلى الأمام . 

و لم يكن يدرك عمرو موسى ، و لا حسني مبارك ، أن كل هذه الإتفاقيات الوهمية ، هي صناعة مخطط صهيو- أمريكي ، يستهدف إلهاء العرب، لتمهيد الطريق أمام تنفيذ مخطط "الفوضى الخلاقة و الشرق الأوسط الجديد "و الذي بدأ بعد ذلك بالفعل بالإحتلال الأمريكي للعراق في 2003 ، تلاه تقسيم العراق لثلاث دويلات، ثم تبعه بإسقاط الدولة الوطنية في عدة دول عربية أخرى على رأسها سوريا، و ليبيا ، و اليمن .

و لم يهتم الرئيس السيسي، فور توليه منصب الرئاسة في 3 يونيو 2014 ، بتحديد شخصية المسئول عن تراجع مصر إفريقيا ، و هل هو حسني مبارك ، أم عمرو موسى، فبادر بوضع إستعادة مصر لعضويتها المجمدة في الإتحاد الإفريقي على رأس أولوياته. و في هذا الإطار حرص السيسي على أن تكون أول زيارة يقوم بها خارج البلاد للجزائر، في 25 يونيو 2014 ، ليس فقط بصفتها دولة عربية كبرى، و لكن لكونها دولة إفريقية كبرى ، تتولى في نفس الوقت منصب رئيس مجلس السلم و الأمن الإفريقي .و ساهمت الجزائر، التي عانت من ويلات الإرهاب لسنوات طويلة ، في عودة مصر للإتحاد الإفريقي، ليستكمل الرئيس السيسي رحلته في نفس اليوم للمشاركة في الدورة ال 23 للإتحاد الإفريقي التي عقدت في ملابو عاصمة غينيا الإستوائية .

وبعد أن أتم الرئيس السيسي مهمته بنجاح في عودة مصر لبيتها الإفريقي، بدأ في مواجهة أهم مشكلة تواجه مصر، و هي سد النهضة الإثيوبي، الذي ورثه عن حكم الإخواني، محمد مرسي، فبادر بمعالجة نقص الطاقة الكهربائية ، و هو السبب الرئيسي الذي دفع إثيوبيا و من يحرضونها لبناء سد عملاق على نهر النيل لتصدير الكهرباء لمصر ، رغم أن إثيوبيا تمتلك 10 أنهار أخرى بخلاف نهر النيل تستطيع بناء أكثر من سد عليها . ولم يكتف السيسي بمعالجة نقص الكهرباء ، بل تمكن من تحقيق فائض في الكهرباء ، من خلال تنويع مصادر الطاقة لتصبح مصر دولة مصدرة للكهرباء، و هو ما مكنها من ربط شبكتها الكهربائية بشبكة السودان، الدولة الثانية التي كانت إثيوبيا تستهدف تصدير الكهرباء إليها من سد النهضة . 

والسؤال الآن لمن ستبيع إثيوبيا كهرباء سد النهضة إذا كانت الدولتان اللتان من أجلهما تم بناء السد لم يعودا بحاجة للكهرباء ؟ . و برؤية ثاقبة و أدراكا من مصر بعدم قدرة السودان على تسديد ثمن الكهرباء بالدولار ، حيث تعاني نقصا حادا من العملات الأجنبية، قررت مصر تلقي مقابل تصدير الكهرباء للسودان بإستيراد اللحوم، و فول الصويا ، وعباد الشمس.

ولن أجزم هنا بأن إثيوبيا تراجعت نهائيا عن تكملة بناء سد النهضة، و لكن يمكنني أن أقول أن سد النهضة لم يعد ذي جدوى إقتصادية كبرى للشعب الإثيوبي كما تم الترويج له، بعد أن تحولت مصر لدولة مصدرة للطاقة الكهربائية ، و بعد أن أصبحت مصر على إستعداد لتوصيل الكهرباء لشبكة السودان بعد 25 يوما فقط من الآن . فهل ستتراجع إثيوبيا عن إستكمال بناء سد النهضة أم ستكتفي بسد متوسط القدرة كما تطالب مصر ؟ .

و بعيدا عن سد النهضة، فقد بنى الرئيس السيسي رؤيته للعلاقات مع إفريقيا على أساس ربط المصالح الإقتصادية المصرية بالمصالح الإقتصادية للدول الإفريقية، بعد أن أدرك أن الجهود الجبارة التي بذلها الرئيس الراحل ، جمال عبد الناصر، لتعزيز العلاقات المصرية بإفريقيا ذهبت تقريبا سدى بمرور الوقت لكونها إرتكزت في غالبيتها على المصالح السياسية . 

فبعد أن حصلت الدول الإفريقية على الإستقلال بمساعدة مصر في ستينات القرن الماضي، أي منذ ما يقرب من 60 عاما، لم يعد الكثير من أبناء الشعوب الإفريقية يتذكر دور مصر في مساعدة حركات التحرر الإفريقي ن لكونها شعوب شابة ، ولدت معظمها بعد الإستقلال، إلهم إلا من أبناء زعماء التحرر الإفريقي من أمثال نكروما و لومومبا ، و سيكوتوري و غيرهم . 

وأسفرت جهود مصر ، عن توقيع 44 دولة إفريقية ، على إتفاقية تأسيس منطقة التجارة الحرة بين الدول الإفريقية ، من بين 55 دولة إفريقية، أعضاء في الإتحاد الإفريقي ، و تشير المعلومات ، أن بقية الدول الإفريقية، في طريقها للتوقيع على هذه الإتفاقية المهمة، التي من المتوقع أن تحرر التجارة، لصالح و تنمية مليار و 200 مليون إفريقي، يمثلون أكبر ثاني قارة في العالم من حيث الكثافة السكانية بعد قارة آسيا .

و من منطلق إدراك الرئيس السيسي، أن الإرهاب يحتل أولوية إهتمامات الدول الإفريقية، فلم يتوان عن إقامة المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب في دول الساحل و الصحراء على أرض مصر، على أساس أن دول الساحل و الصحراء ، هي الأكثر إستهدافا من الإرهاب، بعد أن إتخذتها الكثير من الجماعات الإرهابية ملاذا آمنا لها ، على رأسها الشباب الصومالي، و بوكو حرام ن و داعش و غيرها .

و في نفس التوقيت أقامت مصر في مدينة العلمين ، قاعدة محمد نجيب العسكرية ، و هي واحدة من أكبر القواعد العسكرية في الشرق الأوسط ، بالقرب من الحدود مع ليبيا ، التي يزدهر فيها الإرهاب ، نتيجة تفكيك جيش ليبيا التي تعد بمثابة الدولة الإفريقية الأقرب لدول الساحل و الصحراء نظرا لإقتسامها لحدود مشتركة مع عدة دول إفريقية . و بالفعل إستضافة مصر في قاعدة محمد نجيب ، للمرة الأولى، في نهاية ديسمبر الماضي ، فعاليات التدريت المشترك في مجال مكافحة الإرهاب بين عناصر دول تجمع الساحل و الصحراء .

و في نفس التوقيت إحتل ملف النهوض بالبنية التحيتة في إفريقيا، إهتماما بالغا من الرئيس السيسي ، و تجسد هذا الإهتمام بفوز مصر ببناء "سد ستيجلر جورج " بتنزانيا بتكاليف قدرها 3 مليار دولار، لتفوز مصر ببناء هذا السد على حساب دولة عملاقة مثل الصين ، و تركيا . و يعد هذا الفوز ثمار تعاون مشترك بين شركة المقاولون العرب الحكومية، و شركة السويدي إليكترك الخاصة لتبعث مصر برسالة قوية للأفارقة ، بأن خبراتها ، و معداتها ، جاهزة في إفريقيا ، لتسليحها ببنية تحتية قادرة على تهيئة الطريق للتنمية المستدامة في القارة السمراء .

و هنا أدرك الأفارقة أن إهتمام مصر بإفريقيا لم يعد يقتصر فقط كما كان يروج البعض من أجل الحصول على مياه نهر النيل و التأهل لكأس العالم و الفوز ببطولات الأندية الإفريقية . و أخيرا ، لن أكتفي للإستشهاد بمدى التقدير الذي أصبحت تناله مصر من جانب أشقائها الأفارقة ، بالإشادات التي وجهها القادة الأفارقة لترأس الرئيس عبد الفتاح ، السيسي لقمة الإتحاد الإفريقي للعام 2019 ، لكن سأستشهد أيضا على ذلك بقيام 16 دولة إفريقية بالتصويت الكاسح لإستضافة مصر لبطولة الأمم الإفريقية 2019 مقابل دولة واحدة فقط ذهب صوتها لدولة جنوب إفريقيا ، و هي الدولة التي كانت حصلت على أغلبية الأصوات الإفريقية في التصويت على تنظيم كأس العالم 2006 مقابل صفر صوت لمصر .

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط