الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

سر الخلطة الألمانية


تابعنا جميعا الكارثة التي حلت بمصر منذ فترة انقضت، وراح ضحيتها عشرات الشهداء وعشرات الجرحى والحرقى، عندما اجتاح جرار قطار طائش، يحمل في بطنه آلافًا من لترات الوقود الذي انفجر على غير توقع ليشوى عشرات الركاب بلهيب من جهنم، بعد أن ارتطمت عربة القطار برصيف المحطة محدثة شرارًا التقطه خزان الوقود لتقع الكارثة؛ ودار ما دار، وقيل ما قيل، وكالعادة استقال الوزير؛ ودخلنا بعدها في دوامات، وخد وهات، وصار الحدث في طي النسيان.

لا أريد أن أكرر ما كُتب في الصحف والمحطات الإخبارية؛ ولا أريد أن أجدد الأحزان، التي اعتصرت قلب كل مصري مخلص وأمين، ثريا كان أم فقيرا. أريد أن أقف عند ومضات بعينها، بعد أن قرأت قصيدة بالعامية للشاعرة رانيا مسعود تؤلب علينا مواجع القطارات ذاتها، تقول فيها:

كان أتوبيس المدارس جاي محمِّل بالولاد
بعد يوم كامل دراسي
ما خلفشي ف يوم ميعاد
جاي على طريق المدارس
جاي على طريق الزراعي
المهم تكون مِسلِّم
إن رب الكون دا راعي
للولاد اللي ف حمايته
من مدراسهم لبيتهم
ولَّا حتى الكل راعى
إن دول أمن ف حمايته
لمَّا مر القطر يجري
خد ف وشه كأنُّه مَجَرِي
الولاد صَبَحِت ضحية
والحوادث جت كتييييير
اللي سَلِّم إنه أمر الله يا سيدنا
واللي بَلِّم من نظامنا ومن شبابنا
واللي كان واخد في وشه هو راخر
أصله ماشي وفاتها جنبه وراح لغيرها
اللي عدَّى من ولادنا واللي هدَّى واللي زاحِم
واللي دارى بإيده وشه
واللي سابها كتير تغشه
واللي تاه في غُنا المدارس
واللي سلِّم إنه حارس
للمدارس والولاد
واللي بيغنوا كتييير
واللي بيموتوا كمان
مش ناقصنا نحب فيهم
ع الجيتار أو بالكمان
بِدِّي بس تكوني طنط الحلوة رانيا
اللي عايشة حياتنا ديَّ مش مسافرة ف دنيا تانية
وامَّا تيجي تقول عليَّ إني ضحكة
ما تقوليشي إني زي الحلوة مصر

فعلًا، أنا لست كالحلوة مصر، التي اندفع أبناؤها يطفئون حرقى القطار بكل ما طالته أيديهم، هذا بجالون من الماء، وذاك بجاكيت خلعه لتوه، وثالث ببطانية خرقة يلقيها على راكب بائس ساقه القدر إلى حيث كان؛ المهم الكل هرول لإنقاذ الحرقى، حتى لا يُحملوا إلى عالم الموتى.

وأمام المستشفيات نسي المصريون كل شكاواهم من الغلاء والأسعار، والزحام واللحم والخضار؛ والدم كان أغلى شيء يهبونه للجرحى والحرقى طوعًا من أجل أن تحيا مصر. هؤلاء هم أهل الحلوة مصر، الذين التفوا طوعًا ذات يوم حول الزعيم يطالبونه بالبقاء، رغم البؤس والشقاء؛ التف الجميع حوله في وقت شدة ليردوا الصاع صاعين، لعدو أهاننا مرتين. هؤلاء هم الذين حملوا السلاح يدًا بيدٍ ليستردوا كرامة مصر والعروبة التليدة، فكان النصر حليفهم في حرب أكتوبر المجيدة. هؤلاء هم الذين خرجوا طوعًا لينقذوا البلاد، ويزيحوا طواغيت العباد. إنه الشعب الأصيل، الذي دومًا يأتي في الميعاد، سواء في الهجير، أم عند الفجر أو الأصيل...وهذا هو يا أم الصابرين سر قوتك، وبهاء طلعتك.

أما أنتم، يا من تقومون على أمر المرافق، الحسبة ليست حسبة "برمة"، القصة قصة علم وتخطيط، ودراسة جدوى وتحليل، وتحديث وتدريب، وأمانة في التنفيذ؛ وتظل المشكلة: من هيدفع ومن يشيل؟ وكي لا يكون الحمل ثقيل عليك...ابحث عن شريك، يحبك ويعطيك، ووفيه حقه في وقته، حتى لا يقع اللوم عليك، "وماتبقاش زي الفريك"...بالمناسبة هذا هو سر الخلطة الألمانية التي جعلت المنظومة عندهم "ميه ميه".

* كاتب وأستاذ أكاديمي

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط