الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. يحيي عبد القادر يكتب: الجريمة فى ثلاثة عصور‎

صدى البلد

تحمل إلينا الصحف السيارة أحيانا أنباء الحوادث ووقائع الجرائم التى تقع حول العالم وفى مدنه الكبرى. عند مطالعة بعض الصحف المصرية قرأت خبرا عن تشكيل عصابى يضم (كمونه وعفريت وبلاطه !) . قد تبتسم قليلا حين تتذكر أفلام نجيب الريحانى وتستعرض أسماء اللصوص أو (الشطار) الذين كانوا يشاركونه أفلامه أمثال (إبراهيم نفخو) وصهره (محمود بلاليكا) فى فيلمه الرائع (لعبة الست). العجيب أن لصوص الزمن الجميل كانوا ظرفاء ولم تلوث يد الجريمة سوى الشقيقتان (ريا وسكينة ).

لاحظ أن لص الزمن الجميل كان يحتفظ باسمه الحقيقى مضافا إليه إسم الشهرة أما لص اليوم فقد تم محو اسمه وبقى لنا نحن الضحايا الأبرياء إسم الشهرة فقط . وهى دلالة خطيرة لأنه فقد إنسانيته وأصبح مجرما خالصا مع سبق الإصرار والترصد! لابد أن الزمن الحزين قد جمع بين الفرقاء (كمونه وعفريت وبلاطه) وبالرغم من رمزية الأسماء إلا أنها ذات دلالة لاتخفى على رجل عالم مثل (ليفى شتراوس) أو خبراء علم الجريمة . الكمون كما يعرف القارئ المطلع أحد التوابل التى تضاف إلى الكثير من الأطعمة فتكسبها مذاقا جذابا يغرى بفتح الشهية فيلتهم الجائع مايزيد عن طاقته وكان هذا هو دور (كمونه) فى الواقع . إعتادت الفتاة (كمونة) على ركوب سيارات الأجرة ثم إغراء قائد السيارة باللهو قليلا وحين يتوقف الضحية فى موقع تحدده كمونه ينقض عفريت وبلاطه عليه لتجريده من ممتلكاته وربما قتله وفقا لظروف كل جريمة.

لابد أن (عفريت) يتمتع بذكاء خلاق فهو يستهدف الضحايا ويحدد خط السير أما (بلاطه) فهو رمز للبلادة وفقدان الحس وربما الاعتداء على الضحايا دون مبرر كما أثبتت الوقائع .لقد شرعت فى كتابة هذا المقال بسبب واقعة مماثلة جرت منذ عشر سنوات فى إحدى المدن

المصرية. سردت الصحف وقائع تشكيل عصابى يضم هذه المرة (ترانش وملقط وريشه !) لا بد أن المرحوم نجيب الريحانى يتقلب فى قبره حسرة وألما لأنه لم تتاح له فرصة استغلال أسماء المجرمين المعاصرين فى أفلامه ومسرحياته الكوميدية. بمقارنة أسماء المجرمين

خلال حقبتين سوف تلاحظ سمات مشتركة. أولا (بلاطه) رمز البلادة يقابله (ترانش) و(كمونه) رمز الغواية فيقابلها (ريشه) يبقى لنا (ملقط) الذى يدل إسمه على البراعة فى السرقة والنشل ويقابله فى التشكيل الجديد (عفريت). لاحظ أن التشكيل الحديث يقوم بمهام صعبة تتضمن اختيار نوع المركبة والضحية ومسرح الجريمة وهى مهام معقدة ربما كان (عفريت) يتولى تنفيذها أما فى تشكيل الزمن شبه الجميل فكان يقوم بمهام سرقة إستاتيكية بسيطة بغرض (الرغبة فى الحياة) وتلبية إحتياجات العائلة .

عرف الناس فى مصر النشال والحرامى ولابد أن كلاهما كان إنسان يدرك مسئوليته الاجتماعية فيضطر للسرقة تحت وطأة العيش فكان يفر مسلما ساقيه للريح أو متسلقا المواسير (فى حالة الحرامى) وعادة ما يتم القبض علي معظمهم بواسطة أهل الحى أو الحارة أو المارة. أما اليوم فلقد إكتسب المجرم هوية جديدة وسطوة وهيبة وصار اسمه "مسجل خطر!". فى الماضى كان اللص يسرق ثم يهرب وأحيانا يهرب مؤثرا السلامة على الفضيحة حتى لا تهتز صورته فى الهيئة الإجتماعية فهو ليس بلص محترف لكن دفعه العوز لكسب العيش بهذا الأسلوب تماما مثل الذين إضطرهم العوز عام الرمادة للسرقة بسبب الجوع المفرط حتى أن الخليفة عمر نادى بتعطيل حد السرقة حتى يزول القحط.

أما إجرام الزمن الحزين فصار أكثر تعقيدا وأفدح ذنبا فمع تطور وسائل النقل إختفى النشال والحرامى واللص وبقى لنا نمط المجرم السفاح. فبرنامجه عادة يبدأ بالقتل أولا ثم السرقة ثانيا كما فى واقعة كمونه الشهيرة. الأعجب أن توقيت ارتكاب الجرائم قد أختلف شأن كل شيئ فأصبحت الجرائم الدموية تقع نهارا فى وضح الشمس بعد أن كان معظمها (فى الزمن الجميل) يقع حين يسود الظلام فلا المجرم يسعى لكشف هويته ولا ينوى إيقاظ أهل الدار من ضحاياه حرصا على راحتهم. أما الشطار فمنهم (الشاطرحسن) الذى كان بطلا شعبيا مثل (روبن هـود) يميل لنهب الأغنياء لصالح رفاقة ولسد حاجة الفقراء. وهكذا توارى زمن اللص الظريف الشعبى الشهير ولم يبقى لنا سوى العيش فى زمن عفريت وبلاطه وريشه وصاحبتهم كمونه !