الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

بيننا وبينكم مائة عام!


لم أتوقع أن يسألني أستاذ ألماني، أتى زائرًا لنا من جامعة ليبزج العريقة، سؤالًا مباشرًا يعكس مشاهده وانطباعاته عن القاهرة، التي سبق وأن زارها منذ أربعين عامًا للمرة الأولى، واليوم يزورها للمرة الثانية: ماذا تقدمون للبيئة؟ 
كنا نتحدث في موضوعات عدة ما بين السياسة والاقتصاد والتعليم، وجاء سؤاله المفاجيء لي: ماذا تقدمون للبيئة؟ وكأنه يقول لي كيف تعيشون في بيئة غير صحية ونظيفة؟ كنت صريحًا في إجابتي ومباشرًا، فليس من الحكمة أن أجمل له صورة رآها بعينيه في القاهرة على مدار أسبوع كامل، فلم ير من يتطوع لتجميل الشوارع، أو لطلاء المنازل؛ مثلما لا يوجد مسؤول يأمر برفع السيارات الخردة من الشوارع، أو بتركيب فلاتر على مداخن المطاعم، أو بتثبيت أجهزة لقياس وقراءة نسب التلوث.
لقد نشرت ذات يوم مقالًا بعنوان "كوم الزبالة"، استخدمت فيه قصيدة الشاعر الرقيق عصام خليفة التي تحمل نفس العنوان، لعل هناك من يتذوق الشعر فيرق لحالنا ويأمر برفع القمامة من شوارع الأحياء...وذهب المقال سدى، وضلت القصيدة طريقها، ولم تلق من يرق لحالها. فلا تزال أكوام القمامة حارسة لأرصفة الشوارع، تحملق في وجوه المارة، تزكم أنوفهم، ماعدا أحياء بعينها، وأصبح المثل الذي يقول: "من بره هلاَّ هلاَّ ومن جوه يعلم الله" منطبقًا تمامًا علينا. 

حقًا، يمكننا أن نرى عربة متوسطة الحجم تحمل عمالًا ارتضوا أن يركبوا في صندوقها الملوث ببقايا القمامة، لنراهم يسيرون في الشوارع لكنسها فقط وليس لرفع القمامة (حسب تصريح رئيس هيئة نظافة القاهرة في حديثه لراديو 9090). والحق، إنهم يبذلون جهدًا يشكرون عليه، غير أنه بانتهاء اليوم، يكونوا قد انتهوا بالكاد من كنس الشوراع الرئيسية التي قد يمر منها ذوي المقام الرفيع...وتظل الشوارع الخلفية المتوارية تعاني من المرارة والألم الذي يعتصرها من روائح القمامة التي تزكم الأنوف وتتلف الأبدان. 

استمعت لخطة رئيس هيئة نظافة القاهرة العام الماضي لإدارة منظومة رفع قمامة القاهرة؛ وارتسم الحزن على وجهي لِما سمعته، فالمنظومة تعتمد على إعادة زبَّالي العصور الوسطى ثانية ليمروا على الشقق ويجمعون القمامة منها، لمن يدفع لهم، ومن لا يدفع يرسل أطفاله بأكياس القمامة ليلقوها على نواصي الأرصفة –في سلوك غير حضاري- ولا تجد من يرفعها فتتحول إلى فيء ثمين للنباشين والكلاب الضالة. 

وتحدث سيادته عن نقاط تجميع القمامة في الشوارع، وهي عبارة عن نقاط تجميع مكشوفة لحين وصول عربة الكبس لتحملها- إن أتت- وإن لم تأت تظل ماكثة لليوم التالي، ليتكاثر حولها الذباب والحشرات التي تأتيها من كل حدب وصوب.

والإجراء التالي الذي تحدث عنه هو تكليف متعهدين بتوريد عمال يمسكون بمقشات بدائية لكنس الشوارع، مع توفير خط ساخن للإبلاغ عن المتقاعسين منهم.

لقد سافرت بلدانا شرقًا وغربًا، وإنني لأجزم أن المسافة بيننا وبينهم فيما يخص قضايا البيئة تحسب بالسنة الضوئية وليس بساعة بيج بن...فلو كان سلوك بعض المصريين غير قويم في التعامل مع البيئة، فهناك منهم من يدرك قيمة الحفاظ عليها، فلا تلقوا بالعتاب كاملًا على المواطن، الذي أصبح يتحمل عبء التخلص من القمامة على نفقته، فالعتاب مشترك بين مسؤول أعطى قرارًا بإنهاء عقود شركات جمع القمامة قبل أن يستعد بمعداته وببديل حضاري يليق بمصر، وبين مواطن لا يعي قيمة بيئة خالية من التلوث؛ وكان الأولى أن يشاهد ذلك المسؤول أفلامًا تبين كيف تتخلص بلدية اسطنبول أو برلين أو روما وغيرها من القمامة، ليحدد وقتها أين سنكون من دول العالم الأول.

خلاصة القول أننا أمام بيئة مرعبة، تحتوي علي: زبالين، وكناسين، ونباشين، وعربات كارو وتروسيكلات قذره تحمل أكوامًا من القمامة، وعوادم وأدخنة، وحفر غائرة، ومطبات بارزة، وحدائق ممسوخة، وجزر ممسوحة، وبالوعات مفتوحة، وأرصفة معدومة، وأشجار مبتورة، وتكاتك منثورة.

ليس من الإنصاف يا سادة القول أننا في قضايا البيئة نسير على درب العالم الأول، لأن المسافة الزمنية بيننا وبينه مائة عام...أما آن الآوان لنتكاتف معًا من أجل بيئة صحية ونظيفة؟
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط