الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ماذا بعد فرج فودة؟!


مات فرج فودة في السابعة والأربعين من العمر، فما عساه أن يعيش بعدها؟! عشر سنوات؟! عشرون سنة؟! ثلاثون؟! تراه لو عاش أكثر من ذلك؛ دون أن يتعرض له هؤلاء المجرمون؛ هل كان يمكن أن يحرز مثل هذه المكانة؟!

كان من الممكن أن يكمل حياته في شد وجذب ومناظرة هنا ومقال هناك وتصفيق وصراخ وهتافات من جمهور انقسم إلى ما يشبه بلطجية  فرق أولتراس فرق كرة القدم.

هذه الرصاصات التى أصابت كبد فرج فودة وأخمدت أنفاسه إلى الأبد، كانت بمثابة الخلود له، فصيرته شهيدا وإن أرغمت أنوفا، كما أنها بمثابة إعلان فشل من وراء قاتليه في مقارعته الحجة بالحجة، كانت هزيمة مخزية لهم واعتراف بالعجز لتلك الجبهة التى افترت على الله ورسوله وأحلت دم أمرئ مسلم لم يرتكب جريرة.

كان لا بد من مواجهتهم بأن ما فعلوه جريمة لا بحكم القانون والعرف فقط ولكن بحكم الشريعة نفسها، فلم يقدم أى منهم دليلا واحدا على ردة فرج فودة بأي من الأدلة الشرعية التى لا يكفون عن تكفيرنا الناس بها.

أكاد أسمعك وأنت تقول وماذا لو كفر فرج فودة أو ارتد، أليس حرا؟!

أنت هنا تقدم لهم ما يريح ضمائرهم ثم لا يلبثوا إلا أن يضموك لصفوف المرتدين وينتظروا الفرصة السانحة للتقرب إلى الله بدمك.

أنت هنا تقف بجوار الشيخ محمد الغزالى الذي فاجأنى وأفجعنى في شهادته أمام المحكمة في قضية اغتيال فرج فودة بعد استدعائه لتوضيح حكم قتل المرتد بيد أحد الرعية، بأن ما فعله قتلة فرج فودة، ليس أكثر من افتئات على السلطة!

ففى كل آراء وأفكار فرج فودة التى نشرها لا تجد ما يبيح دمه ويجعله في حكم المرتد الذي لا يبنى على الظن والتخمين والتأويل، اللهم إلا من خلال نظرة الجماعات التى فرضت نفسها على الإسلام والمسلمين وقدمت نفسها على أنها الإسلام والمسلمين هم لا سواهم ولا يكون مسلما إلا من تبعهم، فأباحوا دماء كل من خالفهم باسم الله.


هناك من يريد ذلك، من يصر على أنهم من الممثلين الشرعيين للإسلام ومن يعتقد هذا ليس سوى واحد من فريقين
فريق اشتط في الإسلام حتى رأى كل من سواه كفارا، وفريق اشتط في رفض الإسلام حتى ساوى ما بين الإسلام والإرهاب، وكلا الفريقين يرفض ما سواه، وكلا الفريقين اعتمد التطرف ورفض الوسطية منهاجا له أو اعتبر أن الحق هو ما اعتنقه هو وحده وتعصب له، فكما سترى التطرف الدينى ستجد أيضا التطرف اللاديني.


لكن الرصاص حول دفة الصراع من صراع أفكار ومناظرات إلى قتل وسفك دماء لأنه انهزم أمام الفكرة ولم يصمد، فسقط أمام فرج فودة ولم يستطع الرد عليه بالكلمة فاختار الرصاصة ولكن انتصرت الفكرة على الرصاصة لأنها لم تخف ولم تختف!

 حتى لو كان فرج فودة قد أسرف في السخرية من سلوكيات وأفكار بعضهم، حتى مع اعتراضه على ضجيج ميكروفونات المساجد في الأذان والتى أخذها عليه الغزالي، فلقد سبق الشيخ الشعراوي فرج فودة عندما كان وزيرا للأوقاف واتخذ قرار باقتصار الميكرفونات على أذان الفجر دون غيرها عندما اشتكى بعض سكان أحد الأحياء من "إزعاج" ميكرفونات المساجد، حتى أن الشيخ عبد الحميد كشك، هاجمه في واحدة من خطبه الشهيرة بسبب ذلك القرار!

لماذا؟!

لأنهم هؤلاء لا يرون في الدين إلا ظاهرة صوتية ومجرد طقوس ومظاهر كلما أمعنت في القبح والتقبيح، كلما زاد تدينك في نظرهم وفي نظر كثيرين من الجهلاء الذين لا يرون في الدين إلا أن تصير حياتك أشد تعقيدا فلا تسدد ولا تقارب وأحرص على أن تكون منبتا لا أرضا تقطع ولا ظهرا تبقى!

كان يمكن أن تعترض على كثير من أفكار فودة وتعلن ذلك ولكن حادث مقتله الذي مر عليه الآن 28 سنة كاملة، يخرسك ويجعلك مقيدا على الأقل في إعلان موقفك منها.

وكما قلت في المقالات السابقة، إن هناك من سبقوه في تفنيد فكر التطرف والإرهاب، منهم من هم أشد رسوخا وعمقا وموضوعية، لكن كتاباتهم ومواقفهم لم يكتب لها من الذيوع والانتشار ما كتبه رصاص القتلة بخلود فودة ليكون أعظم مكافأة يمكن أن يحصل عليها مفكر في نهاية مشواره، فكأنما قدموا إليه الشهادة على طبق الخلود!

ولنلقي نظرة عابرة على شخوص الفريقين المتناظرين، فسنجد أن كل منهم حقيق على أن يناظر من جلس بجواره وليس أمامه، ففي الفريق المقابل محمد الغزالي، داعية أزهرى كبير انضم في شبابه إلى جماعة الإخوان ولقبه مؤسسها حسن البنا بأديب الدعوة، لكن الغزالى ما لبث أن انفصل وهاجمها وارتبط اسمه بتقرير شارك فيه لوقف حلقات الرواية التى كتبها نجيب محفوظ ونشرها في الأهرام تحت عنوان "أولاد حارتنا"، ولكن لم يذكر الغزالى شيئا عن عقيدة نجيب محفوظ ولم يتهمه بالكفر مع تأكيده على أن هذا الوصف ينطبق على عمله فقط، كما أننى سمعته يذكر في ندوة بمقر مؤسسة روزاليوسف بأنه طلب من نجيب محفوظ التبرؤ من هذه الرواية!

ومع ذلك لم يكفره، لكن فيما يبدو كان موقفه مختلفا بالنسبة لفرج فودة، وحتى الآن لم أتمكن من حل هذا التناقض من شيخ تتسم كتاباته بالحوار العقلاني الذي أحنق عليه الإخوان والسلفيين "الطبعة الأخيرة من الإخوان" والذين رفضوا آراء واردة له في كتب مثل "قذائف الحق" و"فقه السيرة" و"السنة النبوية بين علماء الفقه والحديث" وغيرها من الكتب التى بدا فيها خلاف الشيخ الغزالى مع منهج جماعة الإخوان فضلا عن السلفيين إلى درجة اقتربت من التكفير.

ومحمد عمارة محقق ودارس للتراث ومفكر إسلامي على نهج مدرسة الإمام محمد عبده، وهو الذي أعاد نشر أعماله الكاملة وكذلك الطهطاوى، فتراه نهضويا تنويريا تجديديا إصلاحيا قوميا، تماما كما تحسبه مدافعا عن الأفغاني وعبده وعن تلامذتهما ومن بينهم قاسم أمين، محرر المرأة، والزعيم سعد زغلول، وهذان الاسمان خصوصا، لا يكن لهما كل المنتمين إلى "التيار الإخوانى - السلفى - الجهادي – التكفيري المشترك" إلا كل أنواع البغض والحنق ولا يكفان عن اتهامهما مع باقى مدرسة محمد عبده ومنهم عمارة نفسه والذي كان حرى به أن يقف في فريق فودة ولكنه آثر فريق الدولة الدينية!

كما كان المستشار مأمون الهضيبي من فريق الدولة الدينية بصفته المرشد العام لجماعة الإخوان ولكن لم يوجه أحد له سؤالا عن سبب مجيئه وماذا يعنى أنه مرشد جماعة فرعية انفصلت باسم يميزها ولها طقوس وإجراءات ومقار وميزانيات وهرم تنظيمي معلن له قاعدة ووسط وقمة والعجيب أنه كلا من الشيخ الغزالى والدكتور عمارة مختلفان منهجيا مع الجماعة، لكن أي منهما أو غيرهما لم يشرح لنا مدى شرعية جماعة ميزت نفسها باسم وتقاليد واخترعت منصب مرشد كمنصب ديني له السمع والطاعة في بدعة لم يسبقها إليه إلا جماعات انفصلت عن جسد الأمة ومن الذي شرع لها هذا أو أذن به؟ ولا تحدث أحد ولا جرؤ لطرح مدى بدعية الانفصال بمسمى مختلف ومبرراته ولا كيف يمكن بمجرد الانتساب التنظيمي يتم التمييز الدينى ولا ما الفارق بين أي مسلم وبين عضو الجماعة، لكن المكانة الدينية المبتدعة والكثرة والعصبة عطلت مثل هذه الأسئلة؟!

ولابد من الإشارة إلى أن المستشار حسن الهضيبي، المشد التالي للبنا لجماعة لإخوان، كان قد أمر بفصل الشيخ الغزالى بعد خلافات حادة مع الجماعة التى قضى فيها 17 سنة ووصل لعضوية مكتب الإرشاد كأعلى هيئة فيها!

وبدأ الشيخ الغزالى المناظرة في القاعة الكبرى بمعرض الكتاب تحت عنوان "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية" فكان محقا في تساؤله عن معنى الدولة الدينية، فالزرادشتية دين، والمسيحية دين، والبوذية دين وهكذا، فأي مفهوم عام للدولة الدينية إذن؟! لكن الدين الذي يقصده المتناظرون هو الإسلام وقد كان حري بالشيخ الغزالى أن يضيف لتساؤله: وهل في الإسلام دولة دينية؟!

فإن كان محمد بن عبد الله "صلى الله عليه وسلم" قد مات دون أن يستخلف أو يرسم ملامح طريقة لحكم المسلمين من بعده، وإن كان اختيار أول حاكم للمسلمين تحت مسمى اتفقوا عليه ولم يتفوه به النبي "الخليفة" قد تم في سقيفة بنى ساعدة وليس في مسجد "المدينة، وإن كان أبو بكر قد استخلف عمر بن الخطاب بالاسم، وإن كان عمر نفسه قد أوصى باختيار واحد من ستة صحابة، وإن كان الخليفة الثالث "عثمان" قد انتهكت فيه حرمات ثلاث بقتله في بيته وفي شهر حرام وفي بلد حرام، وإن كان الخليفة الرابع "على" قد قتل من جماعة تقربا إلى الله، فيا أعزائي من فريق أنصار الدولة الدينية ومن بينكم الشيخ الغزالي، تفضلوا بالإجابة: أى دولة دينية تزعمون؟!

لكن السؤال الأولى والأوجب ولكن لم يطرحه أحد ربما تحت رغبة عارمة لإتمام المباراة ينعم بها الجمهور بالصراخ وينتشى اللاعبون بالفوز: هل ثمة تناقض بين الدين والمدنية؟!

ثم تعالوا هنا لتفسروا لي ما هى الدولة المدنية؟!

فالدولة الديكتاتورية مدنية والدولة الشيوعية مدنية والاشتراكية مدنية والليبرالية مدنية والنازية مدنية بل والصهيونية رغم جذورها التوراتية، ما زالت تصر وتقدم الدليل تلو الدليل على أنها مدنية وتبلغ الملهاة  ذروة مأساتها في أن الإسرائيليين العاملين على مشروع "يهودية الدولة" يرفعون شعارها "مدنية".

أعزائي المتناظرون من فريق الدولة المدنية ومن بينكم فرج فودة: أي دولة مدنية تزعمون؟!

لكن مضى الأمر عشوائيا كما بدا عشوائيا، ففيما يبدو أن المناظرة التى شارك فيها أكاديميون عتاة وغالبيتهم يحملون لقب "دكتور" في كلا الفريقين، لم يقوموا بالتحضير لها ولم يطلبوا ضبط وتحديد للمصطلحات ولا وضح أنهم أرسوا قواعد لسير المناقشات، اللهم إلا ما قام به الدكتور سمير سرحان  مدير المناظرة بصفته رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب التى تقوم بتنظيم المعرض!

كما أن فريق الدكتور فرج أيضا بينهم من الخلافات ما بينهم، فقد كان الدكتور أحمد محمد خلف الله صاحب الخلطة الماركسية – الإسلامية وهي خلطة لا يعترف بها الدكتور فؤاد زكريا الفيلسوف معتنق الليبرالية المتناقضة مع فكر الدكتور خلف الله بشقيه والمؤمن تماما بالعلمانية وهو كما أسلفنا الذي اصطك شعار "العلمانية هي الحل" كمضاد لشعار "الإسلام هو الحل" والذي تمسك به الإخوان في كل انتخابات خاضوا غمارها حتى اضطروا فيما بعد للتخلي عنه فيما بعد عقب ثورة 25 يناير في صفقة مع الجناح "المدنى" للثورة للوصول إلى الحكم بأي ثمن!

كما أن التيارات السياسية كانت ترى زكريا مهادنا للنظام القائم وليست له أي دعوات ثورية (ولا تعجب فالخلفية السياسية حاضرة دائما في المشهد) وهو شديد الإيمان بالحضارة الغربية ومن منطلق تعليمه ودراساته يعتقد بأن كل ما يتصل بالمعتقدات الروحية، مرحلة تجاوزتها الشعوب في طريقها للعلم.

الدعاية والسياسة والحنق من كل فريق على الآخر قد بدا هو المسيطر في أجواء أولتراسية استعد فيها المشجعون بالتصفيق والتهليل وخرج كل مشع وفي يقينه أنه قد دحر خصمه!
ولكن مع ذلك كان للمناظرة جانب لم يكتمل، فقد بدا على فرج فوده أنه لا يخاف انتقام شباب الجماعات المعول عليهم لحمايتها، فليكن مصيره القتل حدا  - وحده دون غيره- جزاءً وفاقا لاجترائه عليهم والإخلال بهيبتهم، بينما كانوا يتأهبون للقفز على مقاعد الحكم وهو ما تحقق إثر ثورة 25 يناير بمساندة علنية من غالب رموز التيار المدنى الذي حنق على النظام السياسي الذي أزاحته الثورة، لأنه سمح بوجودهم، فكان يمام الخراب وتمام التباب!

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط