الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عن رواية يوم قُتل الزعيم لنجيب محفوظ


في بضع دقائق بمجرد أن بدأت في قراءة رواية نجيب محفوظ “يوم قُتل الزعيم” أدركت إني وقعت في الفخ. والرواية ليست طويلة وقَبعت في مكاني حتي طويت أخر صفحة فيها. وفي الحقيقة لم أكن على موعد لقراءتها ولكن ما أجمل الصدف وما أجمل أن نستجيب للصدف.

 ولست هنا بصدد تقييم رواية الكاتب الكبير نجيب محفوظ أو نقدها. دخل حياتي مبكرًا منذ كنت في المدرسة عندما قرأت له روايته الشهيرة والتي كانت ممنوعة من النشر في تلك الوقت وهي رواية أولاد حارتنا وذلك في منزل أسرتي في الدقي حيث كان تداول الأفكار والحياة الثقافية جزء من حياة العائلة الكبيرة. وقد انبهرت بالأفكار وبالأسلوب وكانت بداية التعارف على قامة مصرية جديدة اسمها نجيب محفوظ. 

وأذكر ثاني أهم محطة لي مع نجيب محفوظ وهي عندما غادرت مصر للإقامة في الولايات المتحدة، وكانت ضمن الهدايا التذكارية التي أجلبها من مصر لأصدقائي هناك روايات نجيب محفوظ المترجمة إلى الإنجليزية وكانوا يسعدون برواياته كسعادتي بحمل كتاباته من القاهرة إلى واشنطن. وما بين هذه السنوات كانت محطات لروايات أخرى له وأفلام ومقالات له ولقاءات له. أصبح نجيب محفوظ تلقائيًا أمران كاتب مصري عالمي استمد منه افقًا جديدة ومصدر فخر لي لكونه أول عربي ومصري يحصل على جائزة نوبل للآداب في عام ١٩٨٨.

وفي وقت قصير كنت دخلت عالم رواية يوم قُتل الزعيم وقد يبدو من عنوانها إننا بصدد رواية موضوعها له ثقل وبدأت في التعرف على أبطال الرواية وهما عائلاتان جيران وهما عائلة الجد محتشمي زايد وهو جد علوان فواز محتشمي وعائلة الإب سليمان والد رنده سليمان مبارك، وعلوان ورنده شخصيتان رئيستان وقعا في الحب منذ نعومة أظافرهما بالإضافة إلى شخصياتان من العمل تتدخلان وعلاقة علوان ورنده وهما أنور علام وجولستان. 

من أهم ما يميز أحداث هذه الرواية إنها ليست متشعبة على الإطلاق. فهي من الروايات التي تسير أحداثها في خط مستقيم تقريبًا وشبه متوقع وأبواب الرواية تحمل أسماء أبطال الرواية وتكررت الأبواب بنفس الأسماء حسب الأحداث. وكأن أبطال الرواية على مسرح يتفاعلون مع أحداث حياتهم من خلال حوار مع النفس أو مع الشخصيات الأخرى أو قد يكون الباب وصف لحياته أو تقييم لواقعه. كما أن الرواية جاءت على خلفية سياسية أنيقة غير تصادمية ويوم قتل الزعيم هنا المراد به يوم اغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات على الرغم من عدم ذكر اسمه على الإطلاق بالمناسبة و في نفس اليوم قُتل أحد شخصيات الرواية أيضًا وهو أنور علام.

ووقوعي في فخ قراءة هذه الرواية له أسباب كثيرة. واحد بلاغة وحرفية استخدام نجيب محفوظ للغة العربية التي افتقدها كثيرًا وبشدة. جاءت بلاغته في استخدامه للكلمات وقصر الجمل. وقد انجذبت على الفور لوقع عمق معاني الحوار والكلمات البسيطة أو التي تبدو بسيطة وأناقة اللغة المستخدمة. هذه الرواية على الرغم ما يبدو من بساطة أسلوبها فكلماتها تتراشق بالمعاني العميقة وتتداخل فيها المتضادات في الفكر والأفكار للشخصيات وبين مشاهد أحداث الرواية القريبة للشخصيات وخلفيتها التاريخية والسياسية وهنا تتجلى عبقرية نجيب محفوظ في الكتابة. الفخ القاتل حقيقة هو أن تقع في حفرة كاتب يلون أسلوبه بشتى الطرق دون وقع فكرة وأن تجد نفسك تحاول فك طلاسم لغة مبالغ فيها غير مستمتعًا بعذوبة وقع اللغة. وكانت اللغة بسيطة أو معقدة فهي سفينة ابحار الكاتب مع القارئيين ومهمته سلاسة الإبحار كما أبحرت أنا مع سلاسة أسلوب الكاتب العالمي نجيب محفوظ في هذه الرواية.

ووقعت في الفخ لأنني بقراءة هذه الرواية تأكدت لي إجابات كنت حائرة في أسئلتها أو كنت اعتبر الإجابة من وحي أفكاري. ولكن أجابني نجيب محفوظ في قراءة سريعة لإحدى رواياته. لماذا لم يتبقى أدب يجيبنا عن واقعنا أو يسألنا عنه وعن تطورنا الفكري والثقافي والاجتماعي؟ وقعت في فخ رواية نجيب محفوظ لأنه وقف معي على أعتاب حقبه اجتماعية واقعية بأفكارها القريبة والبعيدة ووقفت معه مستمتعة بهذه الوقفه في بيوت مصرية مع شخصيات مصرية في حقبة كنت فيها طفلة صغيرة لم يتسني لي معرفتها إلا عندما قرأت واقع نجيب محفوظ ونظرته لمجتمعه في ذلك الوقت. وربما تختلف معه فكريًا ولكن لن تختلف معه في وضع الأسرة المصرية العادية المتوسطة والأقل من المتوسطة لن تختلف معه في مشهد القهوة المصرية. ودائمًا العالم الأجمل أو المطمئن هو وضع الأسرة المصرية حتي مع وجود صراعاتها وتحدياتها وموضوعاتها ومعاناتها. ولماذا مُطمئن لأنه يوجد أساس واضح وإطار عام للحياة للأسرة المصرية في كتابات نجيب محفوظ. 

وفي هذه الرواية بالرغم من جرأة نجيب محفوظ في طرح الأفكار فكتاباته تحافظ على إطار المجتمع وإطار الأسرة المصرية فهو ليس بالثائر الأهوج المتعطش لكل ما هو شاذ ومختلف لمجرد الاختلاف، على الإطلاق أسلوب محفوظ يطرح دون فرض يقدم ولايدعو ويعرض ولا يبيع. نجيب محفوظ ابن حي الجمالية العريق بالقاهرة تكاد تكون قصة حياته هي قصة كل مصري ولم يكن له “لايف ستايل” ولا حياة مختلفة ينام فيها بالنهار ويصحو ليلًا ومعظم عباقرة مصر في المجالات المختلفة كانت لهم حياة المصريين المتوازنة ولم نعرف مسخ طرق الحياة إلا في العشرين سنة الماضية ولم نعرف النظرة المنفرة للحياة الاجتماعية سوى ممن يمارسون حياة المسخ لاحقًا بعد نجيب محفوظ وجيله. وبالرغم من طرح أفكار مختلفة وجريئة في هذه الرواية بين الإيمان والشك والإيمان والإلحاد وحرية الإيمان لم يكن منفرًا أو داعيًا لطرحه ولم يتخطى حاجز إطار الأسرة المصرية وتقاليدها.

وهنا أيضًا لي وقفة عند شخصية رنده سليمان مبارك بطلة الرواية والشخصية النسائية البارزة التي تأتي من أسرة مصرية ليست ميسورة الحال ولكنها ككل الأسر المصرية في ذلك الوقت تعافر لتبقى وتعيش مع سياسات الانفتاح الجديدة. ربما رنده سليمان مبارك لا تمثل كثير من الفتيات الآن وربما مازالت لا أعلم ولكن المؤكد بدخولي هذه الحقبة الواقعية مع نجيب محفوظ إني رأيت إطار للمجتمع وللأفكار المجتمعية ورأيت نمط ورأيت شخصية واقعية متناغمة مع واقعها ورأيت تجربة شبه حقيقة ورأيت صراع مع واقع به تحديات والأهم لمست شخصية نسائية في طريقها للتطور وللنمو لوجودها في إطار الأسرة المصرية ذات الأساس ولتطورها بطبيعة الحال وتطور الزمن وذلك لأنها تعمل ومتعلمة وتمارس حياتها وتحاول وتصارع الأحداث وفي الرواية كانت تردد أفكار فيما معناه “لست جارية معروضة للبيع” اشارة لحديث الزواج وتكفي عبارة واحدة كهذه لتضعك على الطريق فيما يخص وضع المرأة ونظرتها لنفسها في اطار نظرة المجتمع العامة. فجزء من تمكين المرأة أن تملك جزء من قرارات حياتها حتي وإن كبلتها الظروف المادية.

وأنا في استراحة خروج من عالم نجيب محفوظ سألت نفسي سؤالًا كيف أصبحت رنده سليمان مبارك الآن؟ أين وصلت؟ كيف تطورت شخصية رنده سليمان مبارك في واقعنا الآن؟ ولم أجد إجابه محددة لأنه كي أحصل على إجابه يجب أن يكون هناك نجيب محفوظ يجيب عن هذا السؤال وللأسف يفتقد واقعنا وواقع المرأة المصرية من يجيب عن واقعها. الإجابة أيضًا يجب أن تحمل في طياتها الواقع والخلفية الزمنية التي أجاد فهمها وتفسيرها نجيب محفوظ من خلال قرائته للتاريخ دون مصادمات تأخذنا بعيدًا عن مجرى الأحداث.

عبقرية كتابات نجيب محفوظ إنه عاش الواقع بواقعية وليس بمزج الواقع بقصص لا تحدث إلا واحد في المليون أو قصص شاذة تمامًا عن المجتمع، ثم قام بتغليف نظرته الواقع ببعض من الفلسفة أو الحكمة أيضًا الواقعية وببعض الإسقاط. أشعر بالأسى الشديد لمن توقفوا عند إعادة تدوير الماضي والتراث في حياتنا الآن فهم مساهمون في طمس الحاضر بجدارة. الماضي مكانه الماضي.

 كل من يعيش على الذكريات في أعماله يسلبنا الواقع الذي نتمنى أن نشكله بإيدينا وبإرادتنا وبوعينا الحاضر. أصبحت معظم الساحات ساحات هروب إلى الماضي. الماضي ولى والمستقبل لم يأتي بعد. أشعر بالغيرة لكل الحقب التي كتب عنها نجيب محفوظ وعبر عنها في كتاباته حتى وإن لم تتفق معه فكان له وجه نظر واقعية مرتبطة بحاضره. لقد جاء نجيب محفوظ بالماضي في روايته من خلال شخصية الجد وحنينه للماضي كإطار للحاضر والواقع وجاء بسؤال عظيم متواري في نهاية الرواية من خلال حوار الجد مع نفسه. هل الماضي يقيد حاضرنا؟ هل وجوده يقيد تحقيق أحلامنا؟ هل لو اختفي الماضي وترك مكانه تتحقق أحلامنا؟ افتقد كتابات تعرض لنا الواقع. بدأت أشعر إننا في حالة عجز عن التعبير عن الواقع. يهرب البعض مثلي للقراءة في ثقافات أخرى بلغة أخرى. ولكن المشكلة الأكبر عندما تأتي أجيال أخرى في المستقبل لن تجد فرصتي الذهبية التي وجدتها في رحلة رواية نجيب محفوظ إلى الماضي القريب. نعم عدت إلى الماضي اكتشف ووجدت واقعًا من الماضي استمتعت به وأثرى عقلي ووجداني ووعي وفكري ولكن عدت إلى واقعي ومع أسئلة لا حصر لها. أخشى أن يحاول أن يعود البعض مثلي في المستقبل إلى واقعنا اليوم ليجد خواء ثقافي وفضاء فكري فقير لا يمثل إلا نفسه ولا يجد أي إنجازًا للحاضر.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط