صدر عن منشورات المتوسط بإيطاليا، الكتاب الجديد للمفكِّر المغربي عبد السلام بنعبد العالي، بعنوان: "انتعاشة اللغة – كتاباتٌ في الترجمة".
وهو كتابٌ فلسفيٌّ قدَّم له الناقد والمفكِّر المغربي عبد الفتاح كيليطو، والذي يشرح في تقديمه تأكيد بنعبد العالي على أنَّ الترجمةَ "قضيةُ الفلسفة" وموضوعها الأساس. ذلك أنَّ كلَّ فيلسوف يجد نفسه متنقِّلًا ذهابًا وإيابًا بين لُغَتَيْن (على الأقلّ)، حتَّى في حالة عدم إلمامه بلسان آخر غير لسانه. الكتاب الجديد هو الإصدار الثالث للكاتب عن المتوسط بعد "الكتابة بالقَفْز والوَثْب" نهاية 2020، و "لا أملك إلَّا المسافات التي تُبعدني" بداية 2020.
ويمضي موَضِّحًا أهميَّة الكتاب: "الآن وقد قرأتُ ما كَتَبَهُ عبد السلام بنعبد العالي في الترجمة، أجدُني أنظر إلى الأمور بمنظار آخر. وهذا ما يحدث عادة مع الدراسات الجادَّة والمبدِعة، فهي تُغيِّر نظرتنا إلى الأشياء، بطرحها أسئلة جديدة، قد تكون مخالفة تمامًا لمُسلَّماتنا، ولما تعوَّدنا على اعتقاده. الآن تبدو لي كلُّ ترجمات ألف ليلة وليلة، حتَّى تلك التي تتصرَّف في النَّصِّ بصفة مقيتة، شيئًا ثمينًا، لا يُستغنى عنه. إنها تُثري الكتاب، وتضيف إليه دلالاتٍ ومعانيَ وصورًا، لا ترد في صيغته الأصلية. قد نتصوَّر ترجمة له، تكون نهائية (ومَنْ ذا الذي لا يتمنَّاها؟)، ولكنها ستكون، حتمًا، علامة على انعدام الاهتمام به، وإيذانًا بأفوله وموته.
يقول : إن تاريخ الفلسفة هو في العمق تاريخ الترجمة، وقد تكتسي الترجمة مظهر الشرح والتعليق، كما هو الشأن عند ابن رُشد. أن تدرسَ أرسطو معناه أن تشرحَهُ، أن تُحوِّله من لغة إلى لغة، من خطاب إلى خطاب، وهذا التحويل هو ما يوفِّر للفلسفة حيويَّتها ونشاطها. «فالترجمة، يقول بنعبد العالي، هي التي تنفخ الحياة في النصوص، وتنقلها من ثقافة إلى أخرى. والنَّصُّ لا يحيا إلَّا لأنه قابل للترجمة، وغير قابل للترجمة، في الوقت ذاته». وليست مسؤولية التحويل الذي يتعرَّض لها النَّصُّ مُلقاة على المترجم وحده، بل إن اللغة تتحمَّل القسط الأوفر منها، فاللغة التي يُترجَم إليها النَّصُّ لها طقوسها وشروطها الخاصَّة، بحيث إنها تُقحِم في النَّصِّ مسائل وقضايا، لا تكون واردة في شكله الأصلي، وإذا بالمترجم مُرغَم على نَقْل ما لا يكون راغبًا في نَقْله. وأحيانًا ترفض اللغة أيَّ تعاون معه، وتتسلَّى بعجزه وشَلَل حركته: فَمَنْ يستطيع مثلًا، أن يُترجِم إلى الفرنسية "أمَّا بعد"، "وليت شِعْرِي"؟! بل مَنْ يستطيع أن يترجم "أمَّا بعد" إلى العربية بالذات؟!
ويضيف في مقدمة الكتاب: مسألة الترجمة واردة حتَّى داخل اللغة نفسها. يتساءل بنعبد العالي: «هل هناك وحدة حتَّى في لغة ما بعينها؟» ويجيب: «كلُّنا يعيش لغات في اللغة». إننا على سبيل المثال نقرأ ألف ليلة وليلة في طبعات عربية، تعود إلى طبعة بولاق، ولا ننتبه إلى أن هذه الطبعة "ترجمة" فصيحة لنصٍّ مكتوب بالدارجة. وقد كان علينا انتظار طبعة محسن مهدي لنتأكَّد، أخيرًا، من هذه الحقيقة. فالأصل العربي ليس بالوضوح الذي قد يتبادر إلى الذهن، هذا في حال ما إذا جاز لنا أن نتحدَّث عن أصل لـ ألف ليلة وليلة، وهو أمر مَبنيٌّ على وَهْم أو أُمنيَّة جميلة عابرة.
تتميَّز دراسة عبد السلام بنعبد العالي بكونها أوَّل دراسة فلسفية أُنجِزَت عن الترجمة في الثقافة العربية المعاصرة. فمن خلال الترجمة يُعيد النظر في قضايا فلسفية جوهرية كالهُويَّة والاختلاف، الأصل والنسخة، الوحدة والتَّعدُّد، الأنا والآخر. وأحيانًا يلجأ إلى الإشارة والتلميح، كأن يلاحظ أن «أزهى عصور الفكر غالبًا ما تقترن بازدهار حركة الترجمة»، فيتوجَّه القارئ بفكره توًَّا إلى ضآلة الترجمة عندنا وضمورها، ويتأمَّل بحسرة ساحتنا الثَّقافيَّة التي لا يستطيع أحد وصفها بالازدهار. كم يا ترى من الروايات نقلْنا إلى العربية منذُ الاستقلال؟ إن مقياس الترجمة، ومع الأسف الشديد، مقياس لا يُخطِئ.
جاء الكتاب في 272 صفحة من القطع الوسط، ونقرأ على ظهر الكتاب لأبي حيّان التوحيدي، جملة: "ولو كنَّا نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم، كان ذلك، أيضًا، نافعًا للغليل، وناهجًا للسبيل، ومُبلِّغًا إلى الحَدِّ المطلوب. ولكنْ، لا بدَّ في كلِّ علم وعمل من بقايا، لا يقدر الإنسان عليها، وخفايا لا يهتدي أحد من البشر إليها".
أما مؤلف الكتاب هوعبد السلام بنعبد العالي؛ مفكر وكاتب ومترجم وأستاذ بكلية الآداب في جامعة الرباط، المغرب. ومن مؤلفاته: الفلسفة السياسية عند الفارابي، أسس الفكر الفلسفي المعاصر، حوار مع الفكر الفرنسي، في الترجمة، ضيافة الغريب، جرح الكائن، القراءة رافعة رأسها، لا أملك إلَّا المسافات التي تُبعدني، الكتابة بالقفز والوثب. ومن ترجماته: الكتابة والتناسخ لعبد الفتاح كيليطو، أتكلم جميع اللغات لعبد الفتاح كيليطو، درس السيميولوجيا لرولان بارت.