قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

نجاة عبد الرحمن تكتب: بين النار والوساطات.. لماذا تبقى القاهرة الرقم الصعب؟

نجاة عبد الرحمن
نجاة عبد الرحمن

الأحداث الجارية في غزة تكشف مرة أخرى عن حقيقة ثابتة في المنطقة: أن الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي ليس مجرد ملف سياسي عابر، بل هو عنوان للصراع على الوعي والهوية وموازين القوة. ما يحدث اليوم من محاولات للتهدئة، ومن تدخلات إقليمية ودولية، يعيد تشكيل خريطة الاصطفافات، لكنه في الوقت نفسه يضع مصر في قلب المشهد، كما كان الأمر منذ 1948 وحتى اللحظة الراهنة.

قطر، بما تملكه من أدوات مالية وإعلامية، تحاول أن تكون لاعبًا رئيسيًا في ملف غزة، لكن قدرتها على التأثير تبقى محدودة. فهي تتحرك دائمًا في فلك واشنطن وتل أبيب، وتحتاج في نهاية المطاف إلى مصر باعتبارها الطرف الوحيد القادر على ضمان اتفاقات حقيقية. إسرائيل من جانبها تدرك أن قطر قناة اتصال مفيدة، لكنها لا تمنحها ثقة سياسية كاملة، بينما لا يمكنها أن تتجاهل الدور المصري الذي يمثل عنصر التوازن الحاسم.

الوضع في غزة يتجاوز كونه معارك عسكرية متقطعة، فالقطاع بات ساحة اختبار لشرعية المقاومة، وميدان ضغط على إسرائيل داخليًا وخارجيًا. ومع ذلك، تظل الحقيقة أن غزة لا يمكن أن تعيش أو تنفجر بمعزل عن الجغرافيا المصرية. رفح ليست مجرد معبر، بل شريان حياة، ومصر هي الجار الأكبر الذي يوازن بين التزامات الأمن القومي وواجبها التاريخي تجاه القضية الفلسطينية.

منذ كامب ديفيد وحتى اليوم، اختارت مصر أن تمارس سياسة واقعية تقوم على مبدأ التوازن؛ فلا هي تغالي في الشعارات، ولا هي تفرط في ثوابتها. القاهرة تتحرك من موقع يعرف تمامًا قيمة الاستقرار الإقليمي، وتدرك أن أي انفجار غير محسوب في غزة يمكن أن يتحول إلى تهديد مباشر للحدود المصرية ولأمن سيناء. لهذا فإن تحركاتها الأخيرة، سواء عبر جهود وقف إطلاق النار أو عبر إدارة المعابر أو عبر فتح قنوات التفاوض، ليست مجرد وساطة، وإنما ترجمة عملية لعقيدة أمن قومي متجذرة.

ولعل من الصعب فهم الموقف المصري من دون استحضار السياق الثقافي والتاريخي. فمنذ ثورة 1919 ارتبط الوجدان الشعبي المصري بالقضية الفلسطينية كجزء من الهوية، وجاءت نصوص الأدب والشعر المصري لتؤكد أن فلسطين ليست قضية خارجية، بل امتداد لمعركة الوعي العربي. وهذا يفسر أن التحرك المصري، مهما بدا براغماتيًا، يقوم في جذره على شعور جمعي بأن الدفاع عن فلسطين هو دفاع عن روح مصر نفسها.

أما على الصعيد الدولي، فإن الولايات المتحدة ما زالت اللاعب الأهم، فهي الحليف الأول لإسرائيل، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع أن تتجاوز مصر. واشنطن، مهما اختلفت إداراتها، تحتاج القاهرة كجسر تواصل مع الفصائل الفلسطينية، وكضامن لاتفاقات ميدانية لا يمكن أن يضمنها أحد غيرها. أوروبا من جهتها تبدو مرتبكة بين ضغوط الرأي العام المتعاطف مع غزة وحسابات الحكومات التي لا تريد خسارة إسرائيل، ولهذا فهي دائمًا تفضل دعم الوساطة المصرية التي تمنحها غطاء إنسانيًا وسياسيًا في آن واحد. أما الأمم المتحدة، فهي تبقى مقيدة بالفيتو الأمريكي، لكنها تجد في المبادرات المصرية المنصة الأكثر جدية لتخفيف حدة الأزمة وحفظ ماء وجهها.

وسط هذا المشهد المتشابك، تبقى مصر هي الرقم الصعب. فبينما يحاول البعض احتكار التمثيل أو النفوذ، تظل القاهرة وحدها قادرة على تحويل الوساطات إلى اتفاقات قابلة للحياة. إنها تملك ما لا يملكه الآخرون: ثقل الجغرافيا والتاريخ، وشرعية الدور، ومصداقية القرار. ومن هنا، فإن النظر إلى المشهد الراهن لا ينبغي أن يقتصر على حسابات عسكرية أو اقتصادية، بل على إدراك أن مصر هي ذاكرة المنطقة وعقلها الاستراتيجي. قد تتغير الحكومات وتتشابك المصالح، لكن تبقى القاهرة قادرة على أن تقول كلمتها، لأنها ببساطة دولة تحمل ثقل التاريخ وتستشرف المستقبل.

وإذا ما نظرنا إلى المستقبل القريب، فإن أمام غزة ثلاثة سيناريوهات رئيسية: الأول هو التوصل إلى تهدئة طويلة الأمد بضمانة مصرية، وهو السيناريو الأكثر واقعية لأنه يحظى بقبول دولي ويحقق استقرارًا نسبيًا للمنطقة. الثاني هو العودة إلى جولة جديدة من التصعيد، وهو احتمال يظل قائمًا طالما بقيت جذور الأزمة السياسية من دون حل. أما الثالث، فهو إطلاق عملية إعادة إعمار مشروطة، لن تجد طريقها إلى التنفيذ إلا عبر القاهرة التي تمثل البوابة الرئيسية لأي جهد دولي في هذا الاتجاه. وبين هذه الاحتمالات جميعًا، ستبقى مصر هي الطرف الوحيد القادر على ترجمة الواقع الميداني إلى حلول قابلة للحياة، لأنها ببساطة تتحدث بلسان التاريخ وتتحرك بعقل الدولة الراسخة.