قال أجدادنا قديمًا: “الأرض أمٌ، إن بررتها أعطتك، وإن جفوتها حرمتك”، وهي حكمة تلخص جوهر العلاقة الأزلية بين الإنسان وأرضه، فالأرض ليست مجرد مساحة جغرافية أو تربة زراعية، بل وعاء الحياة وركيزة الرزق ودرع الأمن الغذائي. وحين نتحدث عن التدهور الذي أصاب كثيرًا من الأراضي بفعل عوامل طبيعية وبشرية، فإننا لا نتحدث فقط عن مشكلة زراعية، بل عن أزمة تمس المجتمع كله وتهدد مستقبل الأجيال القادمة.
لقد أدى التصحر والتملح والرعي الجائر والاستخدام المفرط للكيماويات إلى فقدان التربة لخصوبتها، مما انعكس مباشرة على الإنتاجية الزراعية وأضعف قدرتنا على تحقيق الاكتفاء الذاتي.
ومع ذلك، فإن العلم الحديث والتقنيات الجديدة يفتحان أمامنا آفاقًا واسعة لإعادة الحياة إلى هذه الأراضي وإعادتها إلى دائرة الإنتاج.
فكما كان الفلاح المصري في الماضي يعالج أرضه بذكاء فطري وحكمة متوارثة، فإننا اليوم نمتلك أدوات أكثر تقدمًا تمكننا من مواجهة هذا التحدي.
إعادة بناء التربة يمكن أن يتحقق عبر إدخال المواد العضوية والكمبوست والأسمدة الحيوية، التي تعيد للتربة روحها وتحفز الكائنات الدقيقة النافعة بداخلها، وبذلك نستعيد التوازن المفقود.
وإذا كان الماء هو سر الحياة، فإن إدارته الذكية هي مفتاح استصلاح الأرض؛ إذ تأتي تقنيات الري الحديث كالري بالتنقيط والرش لتقلل الفاقد وتحسن كفاءة الاستخدام، بينما تساعدنا تقنيات حصاد مياه الأمطار والسدود الصغيرة على توفير مصدر إضافي لري التربة العطشى. أما التملح، ذلك العدو الصامت، فيمكننا مواجهته عبر الغسيل الدوري للمناطق المتأثرة وزراعة نباتات متحملة للملوحة كمرحلة انتقالية تعيد للتربة توازنها.
ولا يمكن أن يكتمل الحديث عن الاستصلاح دون الإشارة إلى أهمية إعادة الغطاء النباتي، فزراعة الأشجار المتكيفة مع الظروف القاسية تعني تثبيت التربة ومنع زحف الرمال، بينما تتيح نظم الزراعة البينية تحقيق تنوع حيوي يضمن استدامة الإنتاج ويحافظ على البيئة في آن واحد. ومع دخول التكنولوجيا الرقمية إلى قلب الزراعة، أصبح من الممكن عبر الاستشعار عن بعد والذكاء الاصطناعي متابعة حالة الأراضي بدقة، ورسم خرائط تفصيلية تحدد مواطن التدهور وتقترح حلولًا فورية.
الأمر لا يتوقف عند حدود البيئة والزراعة، بل يمتد إلى الاقتصاد والمجتمع؛ فكل فدان يتم استصلاحه يفتح بابًا لفرص عمل جديدة، ويزيد من إنتاج الغذاء المحلي، ويقلل من فاتورة الاستيراد، ويعيد للفلاح ثقته بأن أرضه يمكن أن تعطي أكثر إذا أُحسن التعامل معها. وهنا تلتقي حكمة الماضي مع تقنيات الحاضر، فكما قالوا قديمًا: “من زرع حصد، ومن أهمل ضاع جهده”، فإننا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن نترك أراضينا تزداد تدهورًا فنخسر مصدر قوتنا، وإما أن نتبنى مشروعات قومية شاملة تعيد لها عافيتها.
ومن وجهة نظري، فإن التعامل مع ملف الأراضي المتدهورة يجب أن يرتقي إلى مستوى مشروع قومي لا يقل أهمية عن مشروعات البنية التحتية الكبرى، بحيث تتكامل فيه جهود الدولة مع القطاع الخاص والبحث العلمي، ويكون للفلاح دور محوري باعتباره الشريك الأول في عملية الإصلاح. إن الاعتماد على تقنيات الزراعة الذكية والمستدامة، إلى جانب نشر الوعي بين المزارعين بكيفية التعامل مع التربة والمياه، هو السبيل الأمثل لضمان مستقبل زراعي آمن.
فالمعادلة واضحة وبسيطة: إذا أردنا أمنًا غذائيًا حقيقيًا، فعلينا أن نعيد الحياة إلى أرضنا، وإذا أردنا أن نعيد الحياة إلى أرضنا، فعلينا أن نتمسك بالعلم ونمزجه بحكمة التراث، وننطلق بعزيمة لا تعرف التراجع.