الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عالم ثالث في عاصمة النور.. حديقة إيول بؤرة للمخدرات والتسول والإجرام بباريس

حديقة إيول بؤرة للمخدرات
حديقة إيول بؤرة للمخدرات والتسول والإجرام بباريس

خلقت السلطات الفرنسية كابوسًا أمنيًا في العاصمة باريس من حيث أرادت أن تعالج كابوسًا آخر، حيث تسبب فتح حديقة "إيول" في شمال العاصمة باريس لوقت محدد من الليل أمام مستهلكي مخدر "كراك" في انتشار آفات متعددة مرتبطة بتجارة المخدرات، ومن بينها الاستهلاك المفرط والتسول والاعتداءات التي تتخذ في بعض الحالات شكل أعمال إجرامية.

ووفقًا لقناة "فرانس 24"، بدأت المشكلة في 21 مايو الماضي، عندما قررت بلدية باريس فتح حديقة "إيول" في المقاطعة الإدارية 18، شمال العاصمة الفرنسية، لجزء من الليل أمام مستهلكي مخدر "كراك" لوضع حد للصدامات المتكررة بين السكان المجاورين لساحة "معركة ستالينجراد" (الممتدة بين مقاطعتي 10 و19) ومدمني المخدرات. وسرعان ما تحول هذا الحل المرتجل إلى مشكلة جديدة جعلت من حياة السكان المجاورين للحديقة جحيما.

الساعة الواحدة ظهرا: "مخدر الكراك يجعلك تتناول جرعة تلو الأخرى..."

من على ممر مرتفع، ينظر يواكيم ويحدق بحديقة "إيول" الممتدة على مساحة 42 ألف متر مربع والواقعة شمالي شرق باريس، ليرى جنوبا مساحات مخصصة لممارسة الرياضة تُجاور فضاءات لألعاب الأطفال. أما بالجهة الشمالية، فيرى يواكيم، وبيده غليون "كراك" الكوكايين، ظلالا عابرة وسط نباتات كثيفة وشمس حارقة.  

يواكيم يسكن في ضاحية باريس الغربية لكنه يقصد حديقة "إيول" كل أسبوع لأجل تناول "جرعته"

فقد أصبحت هذه الحديقة ملاذا لمستهلكي مخدر "كراك" الكوكايين في الهواء الطلق منذ قرار السلطات الفرنسية تمديد ساعات فتحها أمام المدمنين لأجل حشرهم في هذا المكان بعد أن طردتهم الشرطة من ساحة "معركة ستالينجراد" البعيدة بضع مئات الأمتار عنها.

وفي ظل حرارة شهر يونيو الخانقة، يتنفس يواكيم غليون "كراك" حتى ترتعش جفونه وتصير ثقيلة، ليغمر العقار القوي دماغه شيئا فشيئا. وبين جرعة وأخرى، يقول الرجل الخمسيني الذي يشتغل عاملا في ورشات البناء: "خلافا لمادة الكوكايين التي قد تلحق بأنفك أضرارا جسيمة، فإن الكراك يجعلك تتناول جرعة تلو الأخرى وهذا ما يؤدي للإدمان سريعا". وقد اكتشف هذا المخدر بعد تعرفه على مدمنين خلال جلسة لإعادة التأهيل في موقع مخصص لمتعاطي المخدرات.

بعد إغلاق الحديقة عند الساعة الواحدة صباحا، يتشرد مدمنو المخدرات وينامون في الشارع

وبات يواكيم يستهلك "الكراك" مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، وبات أيضا من الذين يزورون حديقة "إيول" بصورة منتظمة رغم أنه يسكن في ضاحية باريس الغربية مع زوجته وابنته. ويقول إنه بمجرد اقترابه من الحديقة يناديه ناس من كل جهة يعرضون عليه جرعة، مقرا بأنه يدرك هشاشة وضعه وخطر الانزلاق نهائيا كلما شاهد محنة المدمنين وهم يجولون الحديقة ليلا نهارا بحثا عن "جرعتهم".

وقال يواكيم: "إذا أصبحت يوما مثل هؤلاء (المدمنين)، سأتوقف نهائيا عن الاستهلاك أو أنتحر"، مشيرا إلى أنه يتمنى إغلاق الحديقة أمام مدمني المخدرات لأن هذا الأمر سيساعده على مقاومة الإغراء.

حبات "كراك" الكوكايين لا تتعدى وزن حبة أرز

السادسة والنصف مساء: "نلتقي في الحديقة"

ضرب نحو مائة شخص من السكان المجاورين لحديقة "إيول" بينهم نساء اصطحبن أطفالهن موعدا أمام بوابات الموقع. وعبر مكبر صوت، بدأ باتريك يطلق بعض الهتافات مثل "لا لكراكلاند" و"نريد استعادة حديقتنا وحينا". ثم دخل المجتمعون الغاضبون إلى الجزء الشمالي من الحديقة، وهو الذي أصبح ملاذا للمستهلكين، تحت مراقبة ثماني حراس أمن تابعين لبلدية باريس.

السكان المجاورون لحديقة "إيول" يشكون من الإزعاج والصراعات بين مدمني المخدرات

وذكرت جينيبا، وهي امرأة عمرها 31 عاما جاءت برفقة أولادها، أن ابنها مرة لم يتمكن من الذهاب إلى المدرسة لأن المدمنين احتلوا مدخل المبنى الذي تسكن فيه. وأضافت قائلة إن العائلات تخاف الخروج من المبنى بسبب "هؤلاء الأشخاص" رغم الحرارة الشديدة داخل المنازل.

وبعد خروجهم من الحديقة، خاض المحتجون في حديث طويل عن آخر المستجدات حول مصير الحديقة بعد الوعود التي قطعتها بلدية باريس بتحسين الوضع بنهاية يونيو، مستشهدين بآخر الاعتداءات التي وقعت حول المكان. فقال أحدهم: "لن يتمكنوا من إبعادهم ولو أرادوا ذلك، فهل يُعقل أن يستعينوا بالجيش!". ورد عليه آخر قائلا: "هذا ليس قطيعا من الغنم، يجب معالجة الأمر بكرامة".

جينيبا تسكن قرب حديقة "إيول". وجاءت لتحتج على تحول المكان إلى ملاذ لمدمني المخدرات

الثامنة مساء: "أخاف من وقوع كارثة يوما ما"

من الطابق العاشر الذي يسكن فيه، يتمتع ريكو (50 عاما) بنظرة بانوراما خلابة لمواقع باريس السياحية، لكن عندما يخفض النظر تقابله مشاهد مدمنين وهم يتناولون جرعاتهم أو يقضون حاجتهم في الحديقة.

وشهد ريكو عدة مرات مشادات بين السكان ومتعاطي المخدرات، وقال إن زوجته وأولاده قد أفلتوا يوما من الاعتداء على يد مدمن كان يقضي حاجته مضيفا أنهم تعرضوا للشتم بأسوأ العبارات. وتابع هذا الرجل العامل بقطاع الموسيقى: "أن تضطر لتجنب المضايقة أو تضع دراجاتك الهوائية يوميا في مكان آمن خوفا من السرقة، شيء. لكن أن تخشى تعرض عائلتك للاعتداء يشكل خطا أحمر لسكان الحي. ولا أستبعد وقوع كارثة يوما ما، لأن هذا الوضع الذي لا يطاق قد يدفع البعض إلى تحقيق العدل نيابة عن السلطات".

وفي الأثناء، تستمر تجارة المخدرات في حديقة "إيول" بشكل روتيني، ففي كل ركن ترى مدمنين يستلمون مربعات بيضاء من رجال منشغلين بكسب المال.

نظرة عامة لحديقة "إيول"

الساعة العاشرة مساء: "لو أعطيتني ألف يورو لصرفتها في شراء المخدر"

بحلول الليل، تتحول الحديقة إلى خلية نحل لا تخلو من المخاطر حتى بالنسبة لصحافيين، وترى ما يشبه ألسنة لهب تضيء المكان من خلال سعي نحو 300 مدمن إذابة جرعاتهم على أنابيب "الكراك". ويغلق رجال الأمن الحديقة، ليتجمع مستهلكو المخدرات في مكان بالجهة الشمالية الشرقية لا تتعدى رقعته مساحة مسبحين أولمبيين.

وكان عدة مستهلكي "كراك" الكوكايين قد ذكروا أنهم لا ينامون بالليل، ومن بينهم الجزائري جمال الذي بات مدمنا منذ اكتشافه "عالم الخيال" في 2013. وقام هذا الرجل الأربعيني الذي كان يعمل بمقهى في باريس بتحليل حبات بيضاء لا يتعدى وزنها وزن حبة أرز، في غليون ثم استنشقها مغمضا عينيه. وقال خائبا: "انتهى الأمر، لقد استهلك خمس يورو بنفس واحد".

مستهلكو المخدرات احتلوا الحديقة، ما يثير استياء السكان المجاورين والمارين على حد سواء

وأصبحت أيام وليالي جمال كلها في "خدمة" مخدر "الكراك"، بكمية تتراوح بين ست أو ثماني مربعات. وقال: "لو أعطيتني ألف يورو لصرفتها في شراء المخدر، ولن يتبقى منها في غضون ساعات سوى قيمة فنجان قهوة".

الساعة الواحدة صباحا: سحرة "المودو"

يطفو مصطلح "مودو" على سطح أيام وليالي المدمنين، وهو يشير باللغة الفرنسية إلى الكلمات الهادئة التي يتلفظ بها تجار المخدرات لأجل جلب المشترين. فهم يشبهون في ذلك السحرة، كما يقول جمال، إذ أنهم يتحايلون لإغراء مدمني المخدرات الغائبين أصلا عن الوعي قبل أن يتركوهم واقعين في الحديقة.

الجهة الشمالية الشرقية لحديقة "إيول" التي يحتشد فيها مدمنو المخدرات ليلا

وبحدود الواحدة صباحا، يقوم فريق من المراقبين الأمنيين بإغلاق الحديقة بالكامل وإخلائها من المشردين. وبالتالي، يبقى بعض المدمنين واقعين أرضا أمام البوابات، فيما يلجأ آخرون إلى الشارع أو مداخل المباني السكنية المجاورة. وليس أمام السكان سوى خيار واحد: إغلاق الأبواب والنوافذ لتجنب الصراخ والشجار أو حتى الاعتداء في بعض الأحيان.

الثامنة صباحا: رجل النظافة تحت الحماية الأمنية

في الصباح الباكر، يقوم رجال النظافة بتطهير الحديقة تحت حماية حراس الأمن التابعين لبلدية باريس. وقال أحد الحراس رافضا الكشف عن هويته: "نحن هنا لتوفير الحماية" للمنظفين الذين قد يتعرضوا للاعتداء. وأضاف قائلا إن بعض المدمنين "يعرضون صديقاتهم للدعارة لأجل شراء جرعاتهم، أما تجار المخدرات فغالبا ما يمنحون هذه المواد السامة مجانا للمهاجرين غير الشرعيين ليدمنوا فيصبحوا زبائن في وقت قريب".

خاردياتا مع ابنيها في الحديقة

ويعج الجزء الجنوبي من الحديقة بالماعز والغنم، وهذا ما من شأنه أن يصنع فرحة الأطفال الذين يقصدون المكان في عطلة نهاية الأسبوع مع عائلاتهم.

لكن خاردياتا، وهي عاملة بقطاع الصحة تبلغ من العمر 43 عاما، تؤكد بمرارة: "نحن محاصرون بمدمني المخدرات". وتضيف مستاءة: "المشكل مع 'كراك' الكوكايين أن التجار بحاجة أن يكونوا قرب المشترين لأجل حصد المال"، لافتة إلى أن الأطفال يرون ما لا يجب رؤيته (مثل التسول العنيف والصراعات بين المهربين).

ماعز وغنم وأرانب... الحيوانات الأليفة تساعد السكان المجاورين لاستعادة الحديقة من مستهلكي "كراك" الكوكايين

  

الأمر المستعجل بالنسبة للسكان المجاورين للحديقة هو وضع حد لعمليات الإزعاج والمضايقة اليومية، فهل يجب إغلاق الحديقة في وجه مدمني المخدرات أو فتح قاعات خاصة للاستهلاك؟ بعض السكان، مثل خاردياتا، يرون أن "الحل ربما يكمن في تخصيص أماكن في الهواء الطلق تتيح المتابعة النفسية للمعنيين (وهو ما يشبه مراكز العلاج الخاصة بالأثرياء، مثل نجوم هوليود)".